الدروس السياسية المستنبطة من معركة مؤتة


الدروس السياسية المستنبطة من معركة مؤتة

أ. م. د صلاح الدين محمد النعيمي
باحث في السياسة الشرعية

من المسائل التي تتجلى فيها السياسة الشرعية العسكرية على أساس المصلحة، والتي يمكننا أن نستنبط منها الدروس السياسية لننتفع منها في يومنا الحاضر، هي الانسحاب المنظم من معركة مؤتة التي جرت بين المسلمين والروم.
موجز معركة مؤتة(1):
وهذه المعركة من أعظم المعارك التي خاضها المسلمون في عهد رسول الله r وكانت في جمادى الآخرة سنة 8هـ الموافق شهر آب سنة 629م.
وسبب هذه المعركة أن الرسول r بعث الحارث بن عمير بكتابه إلى أمير بصرى(2) من جهة هرقل عظيم الروم فعرض له أحد عمال هرقل من أرض الشام, فقال له: أين تريد ؟ لعلك من رسل محمد ؟ قال: نعم, فأوثقه وضرب عنقه, فبلغ ذلك رسول الله r فاشتد عليه الأمر, وكان قتل السفراء من أشنع الجرائم, يساوي بل يزيد على إعلان حالة الحرب.
فجهز رسول الله r جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، وأمَّر عليهم زيد بن حارثة, وأوصاهم: إن أصيب زيد فليؤمروا جعفر بن أبي طالب, فإن أصيب فليؤمروا عبد الله بن رواحة, وطلب من زيد أن يأتي مقتل الحارث بن عمير, وأن يدعو من هناك إلى الإسلام, فإنْ أجابوا, وإلا فليستعينوا بالله وليقاتلوهمطول أطط.سأس
وقد وصى الرسول r الجيش في هذه السرية(3) وغيرها من السرايا بوصايا تتضمن آداب القتال في الإسلام, فقد أوصى رسول الله r أصحابه بقوله ((أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيراً, اغزوا باسم الله, في سبيل الله من كفر بالله, لا تغدروا, ولا تقتلوا وليداً, ولا امرأة, ولا كبيراً فانياً, ولا منعزلا بصومعة, ولا تقربوا نخلاً, ولا تقطعوا شجراً, ولا تهدموا بناءً)).
وتحرك الجيش الإسلامي في اتجاه الشمال حتى نزل معان من أرض الشام فبلغهم أن هرقل سار إليهم بمائة ألف من الروم, ومائة ألف من العرب المتنصرة(5), ونزلوا مآب من أرض البلقاء, فأقام المسلمون بمعان ليلتين ينظرون في أمرهم, وقالوا: نكتب إلى الرسول r نخبره الخبر, وننتظر أمره, فشجعهم عبد الله بن رواحة على المضي, وقال: يا قوم إن التي تكرهون للتي خرجتم إياها تطلبون الشهادة وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة, ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا فما هي إلا إحدى الحسنيين, إما ظهور وإما شهادة, فقال الناس: صدق والله, وساروا معه لخوض المعركة.
بداية القتال:
التقى الجيشان, مع هذا التفاوت الهائل في العدة والعدد, ولكن المسلمين لم ترهبهم كثرة عدد العدو فاندفعوا في قتاله, فقاتل زيد بن حارثة قتال الأبطال فاستشهد, فتولى القيادة بعده جعفر بن أبي طالب, فحمل الراية بيمينه فقطعت, فأخذها بشماله فقطعت, فاحتضنها بعضديه حتى استشهد(6), ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة وظل يقاتل حتى استشهد, ثم أخذ الراية رجل(7) من بني عجلان, فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم قالوا: أنت, قال: ما أنا بفاعل, فاصطلح الناس على خالد ابن الوليد ـــ وكانت هذه أول معركة يحضرها في الإسلام ـــ فما زال يستعمل دهاءه الحربي حتى أنقذ الجيش الإسلامي من الفناء, ثم عاد به إلى المدينة.
ثم إن الخبر جاء من السماء في ساعته, إلى النبي r, فصعد المنبر وأمر فنودي: الصلاة جامعة فاجتمع الناس, فقال: ((أخذ الراية زيد فأصيب, ثم أخذها جعفر فأصيب, ثم أخذها ابن رواحة فأصيب -وعيناه r تذرفان- حتى أخذ الراية: سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم)) أخرجه البخاري برقم (3547)   وفي رواية ((اللهم إنه سيف من سيوفك فأنت تنصره)) البخاري برقم (4014) ..
فلما استلم خالد بن الوليد قيادة الجيش ببركة دعاء النبي r قاتل قتال الأبطال حتى إنه قال: (لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف, فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية) أخرجه البخاري برقم (4018) فنصره الله على عدوه وأظهر المسلمين رغم انسحابه.
والظاهر أن خالداً رأى من مصلحة المسلمين الانسحاب المنظم الذي لا يفطن إليه الروم, فقام، بتغيير تنظيم جيش, فجعل الميمنة مكان الميسرة, والميسرة مقام الميمنة, وغيَّر مقام مقدمة الجيش حتى توهم العدو أن مدداً وصل إلى المسلمين فرعبوا وتراجعوا, وتراجع خالد بجيشه بانتظام, وكان يناوشهم وهو ينسحب.
ونجح خالد بن الوليد بالانحياز بالمسلمين من غير أن يقوم الرومان بمطاردة الجيش, وعاد بالمسلمين إلى المدينة بأقل الخسائر إذ لم يقتل من جيشه سوى اثني عشر مقاتلا, أما الرومان فلم يعرف عدد قتلاهم لكثرتهم.
الرسول r يلتقي الأبطال:
فلما دنوا من حول المدينة تلقاهم رسول الله r والمسلمون, وأخذ بعض الناس يحثون عليهم التراب, ويقولون : يا فرَّار, فررتم في سبيل الله, فيقول
رسول الله
r ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى.
أما سبب قول بعض الناس: يا فرار, لأنهم لم يتبعوا الروم ومن معهم في هزيمتهم, وتركوا الأرض التي قاتلوا فيها كما هي, ولم يكن ذلك شأنهم في الغزوات الأخرى.
من هنا يمكن القول أن انسحابهم كان نصراً, لأن خالد بن الوليد عَلِم من خلال خبرته العسكرية أن لقاء هذا الجيش الصغيرـــ ثلاثة آلاف مقاتل ــ يعني هلاكهم جميعاً من غير أن يحققوا أية نكاية بعدوهم وهذا من سياسة خالد العسكرية على أساس المصلحة, والمصلحة هنا في حفظ النفوس, وفي حفظها نصر للأمة.
قال العز بن عبد السلام:
(فإن لم تحصل النكاية وجب الانهزام, لما في الثبوت من فوات النفس مع شفاء صدور الكفار وإرغام أهل الإسلام, وقد صار الثبوت هنا مفسدة محضة ليس في طيِّها مصلحة).
وتقديم مصلحة النفس هنا من حيث الظاهر, أما من حيث حقيقة الأمر ومرماه البعيد, فإنها في الواقع مصلحة دين, إذ المصلحة الدينية تقتضي ــ في مثل هذه الحال- أن تبقى أرواح المسلمين سليمة, لكي يتقدموا ويجاهدوا في الميادين المفتوحة الأخرى, وإلا فإن هلاكهم يُعَدُّ إضراراً بالدين نفسه وفسحاً للمجال أمام الكافرين لكي يقتحموا ما كان مسدوداً أمامهم من السبل.
 ولقد كان لهذه المعركة الأثر الكبير في نفوس العرب بصورة عامة لأنهم كانوا يخشون التحرش بالروم فضلاً عن قتالهم, لذا فإن هذه المعركة كانت توطئة لفتح البلدان التي كانت تحت سيطرة الروم, وكذلك يمكن القول إن هذه المعركة تساعدنا في معالجة الهزيمة النفسية التي نعاني منها في وقتنا الحاضر إذا أمعنا في عدد الجيشين وعدتهما, وفي عدد قتلى الطرفين, لأيقنا أن التفوق التكنولوجي لأعدائنا -مع أهميته- ليس وحده سبب هزيمتنا إنما عدم وجود الفئة التي تقاتل في سبيل الله تعالى كتلك التي قاتلت في مؤتة، أرى أنه السبب الرئيس في تسلط أعدائنا علينا.
قال تعالى: ]كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: من الآية 249.
قال القرطبي: (الآية تحريض على القتال واستشعار للصبر واقتداء بمن صدق, هكذا يجب علينا أن نفعل؟ لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت ذلك, حتى ينكسر العدد الكبير منا قدام اليسير من العدو).
قال ابن كثير:(..هذا عظيم جداً أن يقاتل جيشان متعاديان في الدين, أحدهما وهو الفئة التي تقاتل في سبيل الله, عدتها ثلاثة آلاف, وأخرى كافرة وعدتها مائتا ألف مقاتل, من الروم مائة ألف, ومن نصارى العرب مائة ألف, يتبارزون ويتصاولون ثم مع هذا كله لا يُقتل من المسلمين إلا اثنا عشر رجلاً, وقد قُتل من المشركين خلق كثير, فهذا خالد وحده يقول: لقد اندقت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف, فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية, فماذا ترى قد قتل بهذه الأسياف كلها..).
الدروس السياسية المستنبطة من معركة مؤتة
من خلال ما تقدم يمكننا أن نستنبط الدروس السياسية الآتية:
1. لا يجوز قتل السفراء (الرسل) لأن قتلهم يعد إعلانا للحرب.
2. للقتال في الإسلام آداب, لا بد من التحلي بها.
3. من أهداف خوض المعارك تحقيق إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة تحقق نكاية بالعدو.
4. الحذر الحذر من حدوث فراغ في القيادة, لأن ذلك يؤدي إلى الفوضى التي لا تحمد عقباها, لذا سارع المقاتلون لاختيار خالد بن الوليد بعد استشهاد القادة الثلاثة الذين عينهم رسول الله r.
5. لأمير الجيش أن يجتهد حسب ما تقتضيه المصلحة, فإن رأى في الثبات مفسدة فله أن ينسحب من المعركة للحفاظ على أرواح المسلمين لكي يتقدموا في معارك أخرى.
6. ليس شرطاً أن يكون النصر من خلال سحق العدو, بل قد يكون النصر بالانسحاب بأقل الخسائر، هذا ما فعله خالد بن الوليد فقد كان انسحابه نصراً حقيقياً للمسلمين بدليل قول النبي r لهم, إنهم كرار إن شاء الله تعالى, وهذا كله من السياسة الشرعية العسكرية على أساس المصلحة. والله أعلم


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ   الــــهـــــــــوامــــــــــــــــــــــش       ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـــ ينظر تفصيل معركة مؤتة: تاريخ الأمم والملوك للطبري: 3/107-110 فما بعدها؛ السيرة النبوية لابن هشام: 4/7-21 ؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: 2/158-161؛ البداية والنهاية لابن كثير: 4/259؛ المستفاد. د. عبد الكريم زيدان: 2/381؛ الرحيق المختوم للمباركفوري: 374 فما بعده؛ السيرة النبوية دروس وعبر, د. مصطفى السباعي: 60 فما بعدها، أثر المصلحة في السياسة الشرعية، د صلاح الدين محمد النعيمي: 256 ــ 262. بتصرف
2ــ مؤتة: وهي مهموزة الواو, وهي قرية على مشارف الشام, وتسمى اليوم (الكرك) وهي من المواقع الأثرية في
        الأردن .  ينظر: أطلس الأردن والعالم, 2006م: 27.
3ـ أمير بصرى: هو: الحارث بن أبي شمر الغساني حاكم دمشق الذي أساء استقبال مبعوث الرسول r. السيرة
   النبوية للصلابي: 2/427.
 4ـ السرية: أطلق عامة علماء السيرة على معركة مؤتة اسم الغزوة لكثرة عدد المسلمين فيها, إلا أنها في الحقيقة
   ليست بغزوة وإنما هي سرية لأن النبي r لم يخرج معهم. ينظر: فقه السيرة للبوطي: 258.
5 ـــ العرب المنتصرة: منهم : قبيلة لخم وجذام وبلقين وأمَر هرقل عليهم مالك بن رافلة ..الكامل في التاريخ لابن
   الأثير: 2/159.
6ــ وكان جزاء جعفر بن أبي طالب من ربه أن أبدله الله بجناحين عوضاً عن يديه اللتين قطعتا في سبيل الله, فهو يطير بهما في الجنة ..السيرة النبوية لابن هشام: 4/12.
7ــ الرجل الذي أخذ الراية بعد استشهاد القادة الثلاثة: اسمه ثابت بن أرقم (أقرم) بن ثعلبة بن عدي بن العجلان
   الأنصاري.. السيرة النبوية للصلابي: 2/422.


شارك الموضوع

إقرأ أيضًا