استهداف الأبرياء بذريعة البعث على النيات


استهداف الأبرياء بذريعة البعث على النيات

د. عبد الستار عبد الجبار

عضو المجمع الفقهي العراقي


بعض العمليات الإرهابية التي تستهدف المحتل أو العناصر الأمنية للدولة تصيب معهم عرَضا بعض المدنيين وقد يكونون صغارًا، ويحتج منفذو هذه العمليات بحديث ورد عن رسول اللَّهِ e أنه قال )يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فإذا كَانُوا بِبَيْدَاءَ من الأرض يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ. قالت عائشة: يا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ ليس منهم؟ قال يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ على نِيَّاتِهِمْ(([1]) فكما يبعث السوقة ومن ليسوا منهم على نياتهم كذلك يبعث الأبرياء والأطفال الذين يسقطون في مثل هذه العمليات.
فهل هذا الاستدلال صحيحًا فيمكن أن نفهم من هذا الحديث شرعية القتل من خلال التفجيرات التي تستهدف ناساً معينين ومعهم أبرياء لا ذنب لهم إلا أن جمعهم القدر مع المستهدفين؟ ثم نقول إنهم يبعثون على نياتهم يوم القيامة؟
وهذا الفهم مريض غريب عن منهج الإسلام؛ لأن الإنسان يمثل قيمة عليا في التصور الإسلامي لقوله تعالى }وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً{ الإسراء70 أي كرمنا بني آدم قاطبة تكريما شاملا لبرهم وفاجرهم، كرمناهم بالخلقة فجاءت في أحسن تقويم، وبالتسلط على ما في الأرض والتمتع به والتمكن من الصناعات وغير ذلك مما لا يكاد يحيط به نطاق العبارة.
ومن التكريم } وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ{ أي على الدواب والسفن ووسائط النقل الأخرى فليس من المخلوقات شيء كذلك و}وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ{ أي فنون النعم وضروب المستلذات، وفي العلم والإدراك. 
وهذا التكريم الإلهي لا يحق لأحد أن ينكره أو ينزعه إلا بحق من الله.
ومثل هذا التكريم ما أشار إليه القرآن }الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ{ البقرة22 فكلمة لكم تشير إلى أن تسخير الأرض وجعلها فراشاً؛ والسماء وجعاها بناءً؛ وإخراج الرزق كل ذلك لنا كأُناس ومن أجلنا.
والأصل في الإسلام حرمة الدم إلا بحقوق بينتها الشريعة، منها ما ورد في قوله e )لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلا الله وَأَنِّي رسول اللَّهِ إلا بِإِحْدَى ثَلاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالثَّيِّبُ الزَّانِي والمفارق لدينه التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ(([2]). ولا يجوز أن نُحَّمِل قوله r )يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلا الله وَأَنِّي رسول اللَّهِ( بأن الشهادة فوق القول المجرد لأن النص النبوي في قصة أسامة المتقدمة بين أن القول المجرد يعصم دم قائلها، فهذا الحديث أصل في باب الدماء لا يجوز لمن جلس للفتوى أن يتجاهله.
وورد بمعناه عند الترمذي أَنَّ عُثْمَانَ بن عَفَّانَ t أَشْرَفَ يوم الدَّارِ يحاور الغوغاء الذين حاصروا داره فقال: أَنْشُدُكُمْ اللَّهَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قال )لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلا بِإِحْدَى ثَلاثٍ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ أو ارْتِدَادٍ بَعْدَ إِسْلامٍ أو قَتْلِ نفس بِغَيْرِ حَقٍّ فَقُتِلَ بِهِ( فَوَاللَّهِ ما زَنَيْتُ في جَاهِلِيَّةٍ ولا في إِسْلامٍ ولا ارْتَدَدْتُ مُنْذُ بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e ولا قَتَلْتُ النَّفْسَ التي حَرَّمَ الله فَبِمَ تَقْتُلُونَنِي؟([3])
فالنفس التي قَتلت عمداً بغير حق تُقتَل قوداً في مقابل النفس المقتولة، والزاني الثيب (المحصن) من ذكر أو أنثى يقتل رجماً إذا زنا، وكذا المرتد المجاهر بردته واستخفافه بالدين يقتل، فقوله "التارك للجماعة" قيد يفيد الإشعار بأن الدين المعتبر هو ما عليه سواد الأمة وجماعة المؤمنين.
ويقرر ابن عابدين خطورة سفك الدماء بغير وجهها فيقول (إن أمر الدم خطر عظيم حتى لو فتح الإمام حصناً أو بلدة وعلم أنَّ فيها مسلماً لا يحلُّ لهُ قتلُ أحدٍ من أهلها لاحتمال أن يكون المقتول مسلماً)([4]) فيمنع القتل في مدينة كاملة من أجل مسلم واحد.
وبعد هذه المقدمة نأتي على معنى الحديث، فهذا الحديث فيه إخبار عن حال الفتن التي ستعصف بالأمة في آخر الزمن، والتي منها هذا الجيش الذي سيغزو الكعبة؛ فيخسف به الله I نصرة لدينه وحفظاً لبيته والخسف عقوبة إلهية وليس حكماً شرعياً.
ومن كان مع الجيش من السوقة وغيرهم ممن ليس منهم يناله الخسف لأنَّ عقوبات الله I إذا نزلت عمت والعدل الإلهي يميزهم هناك في القيامة فيبعثون على نياتهم.
وقد حذر الله في كتابه من عموم عقابه فقال }وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ{ فالعقوبة الإلهية القدرية إذا نزلت عمت المذنب وغيره، هذا بذنبه وجريمته؛ وهذا بسكوته عن المجرم ومداهنته له، ثم يبعثون يوم القيامة على النيات.
ويستفاد من الحديث أنَّ من كثَّر سواد قوم في معصية وفتنة فأن العقوبة تلزمه معهم إذا لم يكن مغلوبًا على ذلك... والعقوبة التي في الحديث هي الهجمة السماوية فلا يقاس عليها العقوبات التي تفرضها الشريعة([5]).
فعلينا أن نميز بين ما يفعله الله وما يفعله العبد، فالله Y }لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ{ والله يتصرف بعباده كما قدّر؛ وقدره ماضٍ لا يحاجج به أحد.
أما العقوبات الشرعية التي أمر الله جنده أن يوقعوها بأعدائه فهذه لا يجوز لهم أن يتساهلوا في إيقاعها لتعم الجناة والأبرياء، ومن يفعل ذلك يأثم.. وقد وضح تعالى ذلك في سورة الفتح فقال }وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ{ أي لولا رجال ونساء يؤمنون غير معلومين لديكم وهم بين أظهر الأعداء يكتمون إيمانهم خيفة على أنفسهم من قومهم }أَن تَطَؤوهُمْ{ أي تظهروا عليهم لو أذن الله لكم دخول مكة حينها-عام الحديبية- فتصيبكم منهم معرةُ عيب أو إثم، فلولا هؤلاء لكنا سلطناكم عليهم فقتلتموهم، فكل ذلك معرة راعاها الشارع مع أنها بغير علم وقصد من المؤمنين.
 لذا نص ابن كثير وغيره على أن ذلك إثم([6])؛ فمن يقتل مسلماً في صفوف الكفار بغير علم آثم فكيف بمن يعلم ويستسهل ويستبيح؟
 وقد ورد في عدد هؤلاء الرجال والنساء عن جنيد بن سبيع t وكان أحدهم قال (كنا تسعةَ نفرٍ سبعةَ رجالٍ وامرأتين)([7]) فمن أجل تسعة نفر ضعاف تخفوا في المشركين ولم يهاجروا رغم الأمر بالهجرة؛ أخر الله فتح مكة ونصره للمسلمين عامين رعاية لهؤلاء ولحرمة دمهم، فأين هذا من سفك دماء العشرات والمئات بلا مبرر!!
فـ }لو تزيلوا{ أي لو تميز الكفار من المؤمنين الذين بين أظهرهم }لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما{ أي لسلطناكم عليهم فلقتلتموهم.
فقبل أن يتزيلوا؛ ويكون المسلمون والأبرياء في جهة والأعداء في جهة أخرى لا يجوز القتل، هذا هو حكم الله في كتابه.
والعقوبات الإلهية لا يقاس عليها كما تقدم وفي ذلك نصوص فقد ورد عن عِكْرِمَةَ قال: أتى عَلِيٌّ t بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ فَبَلَغَ ذلك ابن عَبَّاسٍ فقال: لو كنت أنا لم أُحْرِقْهُمْ لِنَهْيِ رسول اللَّهِ e )لا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ( وَلَقَتَلْتُهُمْ([8]) فَبَلَغَ ذلك عَلِيًّا t فقال صَدَقَ ابن عَبَّاسٍ.([9]) فالحرق بالنار عقوبة إلهية ادخرها للكافرين به، وليس لأحد أن يقول أعاقب بالنار لأنها عقاب الله للكافرين، فعقوبات الله لا يعاقب بها إلا الله ولا يقاس عليها.
ثم أين يذهب هذا القاتل من قوله e )كُلُّ الْمُسْلِمِ على الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ(([10]) فجميع أنواع ما يؤذي المسلم حرام؛ وأشدها حرمة الدماء فـ )أَوَّلُ ما يُقْضَى بين الناس يوم الْقِيَامَةِ في الدِّمَاءِ(([11]).
فالدماء أول ما يقضى به بين الناس يوم القيامة فيما يخص الحقوق الآدمية، وهذا لعظم أمرها وكثير خطرها.
ومن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد كيف يستطيع أن يلاقي هذا المشهد يوم القيامة؟ فقد ورد أَنَّ ابن عَبَّاسٍ سُئِلَ عَمَّنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ثُمَّ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى فقال حبر الأمة: وَأَنَّى له التَّوْبَةُ سمعت نَبِيَّكُمْ e يقول )يَجِيءُ مُتَعَلِّقًا بِالْقَاتِلِ تَشْخَبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا فيقول أَيْ رَبِّ سَلْ هذا فِيمَ قَتَلَنِي(([12]).
يا لجرأة الخائضين في فتنة الدماء، نسأل الله العافية.






([1]) رواه البخاري، كتاب البيوع، بَاب ما ذُكِرَ في الأَسْوَاقِ، حديث رقم 2012 . ومسلم، بَاب الْخَسْفِ بِالْجَيْشِ الذي يَؤُمُّ الْبَيْتَ، حديث رقم 2884 بنحوه.
([2]) أخرجه البخاري، كتاب الديات، حديث رقم 6484. ومسلم، كتاب القسامة، حديث رقم 1676.
([3]) أخرجه الترمذي، كِتَاب الْفِتَنِ، بَاب ما جاء لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلا بِإِحْدَى ثَلاثٍ، حديث رقم 2158.
([4]) ابن عابدين، رسائل ابن عابدين، الرسالة الخامسة عشرة، تنبيه الولاة والحكام 1/ 344.
([5]) انظر: عمدة القاري 11/237. وفتح الباري 4/341.
([6]) تفسير ابن كثير 4/194.
([7]) قال السيوطي في الدر المنثور 7/534: أخرجه أبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن قانع والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم بسند جيد.
([8]) رواه البخاري.
([9]) أخرجه الترمذي، بَاب ما جاء في الْمُرْتَدِّ، حديث رقم 1458، وقال: حَدِيثٌ صَحِيحٌ حَسَنٌ وَالْعَمَلُ على هذا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ في الْمُرْتَدِّ وَاخْتَلَفُوا في الْمَرْأَةِ إذا ارْتَدَّتْ عن الإِسْلامِ.
([10]) رواه مسلم، كتاب البر والصلة، بَاب تَحْرِيمِ ظُلْمِ الْمُسْلِمِ وَخَذْلِهِ وَاحْتِقَارِه، حديث رقم 2564 وهو كذلك عند أبي داود والترمذي وابن ماجة وأحمد.
([11]) رواه مسلم، كتاب القسامة، بَاب الْمُجَازَاةِ بِالدِّمَاءِ في الآخِرَةِ، حديث رقم 1678.
([12]) أخرجه النسائي، حديث رقم 3999.

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا