رحيل الدكتور طه جابر العلواني ثلمة أخرى في الجسد المريض



رحيل الدكتور طه جابر العلواني
ثلمة أخرى في الجسد المريض
محمد نذير الراوي


تتلقى الأمة المنكوبة العديد من مصادر الوجع وموارد الفزع، مما يحيل النظر سوداويا، والأمل خياليا، لكن العاقل المتبع لسنن البشير تتحصل له من كل محنة منحة، ويجد في كل نقص رجوعا لتلمس طريق الكمال.
ولعل من جميل لطف الله تعالى أن جعل الدكتور طه جابر العلواني "يولد" و "يموت" في اليوم ذاته: الرابع من مارس، فبين سنة 1935م وسنة 2016م: (واحد وثمانون سنة) من العطاء والبذل، يجعل من يوم ميلاده ميلادا جديدا، حكمة الجليل تعالى في عبده أن يجعله يرقى محلقا في السماء على متن طائرة بين القاهرة والولايات المتحدة الامريكية في طريقه لاستكمال العلاج هناك، حيث وافته المنية فوق الأراضي الأيرلندية.. ولعله وكونَه في الجمعة فأل حسن له رحمه الله ولنا..


مميزاته رحمه الله ولمحات من حياته:
  ولد في الفلوجة، ودرس عند الشيخ عبد العزيز السامرائي، ثم انتقل إلى بغداد وطلب العلم على كبار علمائها في الأربعينيات.
تمكن من علوم التراث بدراسته التقليدية الطويلة.. يدل على ذلك تحقيقه الفذ لكتاب المحصول للرازي.. لكنه خلط بين التنظير الفكري الذكي والتأصيل الشرعي المتقن، ويعد الجمع بين هاتين الصفتين من أندر الملَكات في هذا العصر.
كان معارضا جريئا لنظام حزب البعث وهو ما دفعه اضطرارا إلى مغادرة البلاد عام 1969 حيث توجه إلى مصر ليحصل فيها على شهادة الدكتوراه في أصول الفقه من الأزهر، ثم بعدها إلى السعودية التي عمل فيها أستاذا لأصول الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود.
شع نوره في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث شارك في تأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي،  وترأسّه قرابة عشرين سنة.   
 تسنم منصب رئيس الجامعة في جامعتين: الاولى: جامعة قرطبة، والثانية: جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية (SISS) ، كلاهما بالولايات المتحدة الأمريكية.
تميز بإتقانه للغة الانجليزية وإلمامه بالفارسية، وكانت لغته الكتابية سلسة قوية خالية من الحشو.
احتفظ بعلاقات أكاديمية وإسلامية واسعة في العالم الإسلامي، وقلما يوجد في أنحاء الدنيا مجمع فقهي أو مؤسسة شرعية عريقة إلا وله فيها مشاركة.
 له 48 كتاباً و53 بحثاً و52 مشاركة في مؤتمر دولي، وله ثمانية كتب تحت الطبع.
يقول الدكتور معتز الخطيب: (يكاد يكون الشيخ طه العلواني رحمه الله آخر المجددين في طبقة المشايخ في مثل سنّه، على حين تحول أقرانه إلى "المحافظة")، وينقل أن الشيخ الغزالي أثنى على الشيخ العلواني كثيرا ووصفه بأنه (رجل فياض).
  للراحل موقع إلكتروني زاخر بما ورّثه من مقالات ومؤلفات وعلوم، يمكن الوصول إليه بالضغط هنا.
تنقَّل في اهتماماته وكتاباته العلمية من التخصص الأكاديمي في أصول الفقه، إلى فقه الأقليات، والأديان المقارنة، والسنة النبوية، وقضايا الفكر الإسلامي المعاصر، وتفرغ في السنوات الأخيرة لتدبر القرآن الكريم ونشر فيه حوالي عشرة كتب، وكان ‏‏يرى أن القرآن كله قائم على بيان ثلاثة محاور: ‏التوحيد، ‏التزكية، ‏العمران، ‏وأصّل لهذا في أكثر مؤلفاته.
يقول الدكتور علي العمري: (عرفته جاداً في العلم والمعرفة، مجتهداً مجدداً، موسوعياً في الثقافة، مؤسسياً في المشروعات، ‏قدَّم رؤية جديدة في علم التفسير من خلال تفسير سورة الأنعام، وليته أتم سوراً مفسرة على ذات النهج، ففيها التجديد المطلوب.. وهو من نوادر العلماء الذين تعود لقراءة محاضراتهم المطبوعة فضلاً عن عموم كتاباتهم في المقالات والأبحاث والدراسات، وهو بهذا يمثل النموذج القدوة لنوعية المحاضرات التي يحترم صاحبها عقول من أمامه!).
 بيته الكبير في القاهر كان مكونا من ثلاثة طوابق، طابق لسكنه، وآخر للمكتبة، وثالث كان ملتقى للعلماء وطلاب العلم والفضلاء.
مما أخذ عليه رحمه الله نزعته العقلية المؤثرة في بعض المسلَّمات، كموقفه من قضية رفع سيدنا عيسى، وخروج المهدي، وحد الردة، وبعض توصيفاته النقدية في كتابه الثائر "تأملات في الثورة العربية"، ومن المفارقات أن د. طه العلواني رحمه الله بدأ متأثرًا بسيد قطب وتحدث عن ضرورة "الحاجز النفسي" مع الكفار مطلع الثمانينيّات وانتهى متَّهَمًا بالخروج على "ثوابت" الدين!
من كلماته:
·   "ان العمل الفكري للمتخصصين اهم من العمل الميداني. فكثيرون يستطيعون القيام بعمل ميداني، لكن قلة يمكنهم القيام بالعمل الفكري".
·   يروي الدكتور جاسر عودة: حكى لي الشيخ العلواني رحمه الله عن قصته مع السلطات الأمريكية، وكيف اقتحموا عليه بيته بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول بشكل مسلح وعنيف لدرجة أن زوجته الدكتورة منى أبو الفضل رحمها الله مرضت منذ ذلك اليوم إلى أن ماتت فيما بعد رحمها الله. وأنهم ضغطوا عليه في بعض فتاويه خاصة الفتوى التي تعلقت بحض الجنود المسلمين في الجيش الأمريكي على عدم خوض حروب الخليج الظالمة، فلم يتراجع عن فتاويه، ثم قالوا له بالحرف أنه خطر على الأمن القومي لإن اعتداله ووسطيته هما مصدر الخطر، واشترطوا عليه أن يغادر إلى غير رجعة - رغم الجنسية الأمريكية التي يحملها. وكان يشتكي رحمه الله من بُعد الأمة عن الاعتدال والتوازن والمراجعة المنصفة في كثير من القضايا وأن أسلوب (الصدمة) - على حد تعبيره - أولى لأنه قد يفيق الجهلاء ويحقق نتائج أفضل من الأسلوب الذي يراعي الجو العام، وأن هذا الأسلوب وإن جلب له المتاعب إلا أنه في رأيه الأسلوب الأنجع في التغيير بالإعلان عن الحق أينما وصلت إليه قناعة العالم. 
·   مما قال في آخر مقال له: "انا المسلم اهاب الموت، لكنني اؤمن بانه جسر لابد ان امشيه، لاصل الى دار البقاء من دار الفناء. وارجو حسن الخاتمة، واستعيذ بالله من سوئها. احب الجنة، وابغض النار، احب الامن وابغض القلق، واكره الكراهية ولست بفاحش ولا بسباب ولا بمهلك".
وماذا بعد؟؟!!
·   لقد فقدت الجامعات ومهابط العلم واحداً من أبرز أعمدتها (أو طلابها كما كان يُحب أن يُقال عنه). وربما يكون عهد الوفاء معه هو لملمة تراثه وأسفاره التي لم تُطبع بعد، ففي ذلك أمانة حتى ولو كان هناك رأيٌ آخر.
·   ‏‏له نظريات في المعرفة، واختيارات في الأصول، وآراء في الفقه، واجتهادات في قضايا العصر، ينبغي تفرغ باحثين لدراستها، والإفادة من نتائجها.
·   على المختصين بالساحة العراقية أن يقوموا بمراجعة حقيقية لحالة التصحر البائسة التي تمر بها الساحة العلمية الشرعية في العراق، إذ نخشى أن يمر بالعراق يوم لا يُرى فيه عالم ولا متعلم، فنُنكبَ بفتاوى الجُهّال وتوجيهات الخطباء وتخطيطات الرويبضات، وإنما يكون البدء بالنشء، بمشروع جاد متين متكامل.
·       ألم يأنِ للعراقيين أن يتواضعوا –علماءَ وعوام- فيلتفّوا حول معتَصَم واحد ويتشبثوا بحبل يجمع شملهم ويسدد رميهم؟!
·   لا ينبغي للمؤسسات الشرعية في العراق أن تغيِّب العلماء العراقيين الكبار -الذين اضطرتهم ظروفهم على العيش في المهجر- عن المشاركة في صنع القرار والأخذ بالرأي والمعاونة في المعروف والمساهمة في الشورى، والنقص الحاصل في الساحة أدعى لهذه الحاجة، وكي لا ننشغل برثاء الكبار عند وفاتهم عن الإفادة منهم حال حياتهم، فحقهم علينا أن نفسح لهم المجال وأن نهيء لهم الفرص، بما أتيح لنا من وجود في الساحة، وحقنا عليهم العون والشورى والتواصل البنّاء، بما أتيح لهم من علم وعلاقات ومساحات تأثير.
نسأل الله عز وجل أن يرحم فقيدنا الكريم، وأن يهيئ للأمة أمر رشد، إنه ولي رحيم..

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا