الصحوة الاسلامية


الصحوة الاسلامية
د. يوسف حسن محمد السامرائي
أكاديمي وباحث

الذي يقرأ سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ويتتبع حوادثها منذ أنزل الله سبحانه وحيه على نبيه (صلى الله عليه وسلم) يجد  أن من أبرز سمات هذه الرسالة الخاتمة أنها تتناول مفردات الحياة جميعها .
قال تعالى :(إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) [سورة اﻹسراء 9]، ومادام أن القرآن الكريم لم يذكر مجال هذه الهداية فهذا يعني انفتاح باب الهداية على مصراعيه في جميع نواحيه ومناحيه.
فرسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم جاءت تحمل منهاجا يشمل كافة  جوانب الحياة وينظم سائر شئون الإنسان في علاقته بربه وبالكون وبالإنسان وبنفسه ،  وأنها ليست رسالة إصلاحية في جانب من جوانب الحياة دون سائر الجوانب، ولكنها رسالة شاملة تجيب عن كافة الأسئلة وترسم للمسلم طريقه المؤدي إلى السعادة في الدارين، (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين).
وقد جاء التطبيق والهدي النبوي لهذه السمة من سمات الرسالة القائمة واضحا ورافضا منذ بواكير الدعوة أن يتصف الإنسان المسلم بالنفاق العقائدي او النفاق العملي ، بل إن القرآن صريح في حرمة تجزئة الأوامر أو المنهج، (...أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)
[سورة البقرة 85].
فمارس الرسول (صلى الله عليه وسلم) بذاته أمور الحكم والقضاء وقيادة الدولة، فضلا عن الأمور التعبدية المحضة، فكان إماما في الدين والدنيا، قائدا لجيش المسلمين وإماما لهم في صلاتهم ورئيسا لهم يبرم الإتفاقيات ويعلن الحرب على قوم ويهادن آخرين. يقضي بين الناس ويجمع أموال اغنيائهم ويعطيها لفقرائهم، يعلم الناس أمور دينهم وسنن حياتهم.
وفهم سلفنا الصالح هذا الأمر وساروا عليه كما سارت الأمة على هذا الدرب سواء في عصور ازدهارها أو انحطاطها حتى كانت النكبة الكبرى بالقضاء على الخلافة العثمانية، وما عاشته الأمة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من انسلاخ الأمة من ثوبها الإسلامي في العديد من أمور حياتها، ومن أبرزها الجانب التشريعي؛ الأمر الذي تحول معه الإسلام شيئا فشيئا حتى كاد ينزوي بين جدران المساجد لأداء الصلوات وبعض الطقوس التي غلب عليها جانبان صوفي وسلفي .
فأما الجانب الصوفي، ففي غالبه صوفية مشوهة تغيب العقل والوعي وتنحرف بمفاهيم الإسلام الصافية... وتضاءل دور علماء الإسلام وضعف تأثيرهم في الأمة.
وأما السلفية فالقساوة والبداوة والوقوف عند ظاهر النصوص حتى فاقوا الظاهرية وعطلوا دور العقل، حتى تحجر الفقه والفهم ووقف عند طفولة فكرية .
وفي شق آخر لم نجد دورا للتزكية والتربية فنشأت أجيال من المسلمين الموحدين الغير مؤهلين لقيادة الأمة ﻷنهم أهملوا جانبين عظيمين في صناعة الإنسان وبناء عقليته وتفكيره وبناء اخلاقه وتقويم روحانيته.
في حين تعاظم دور العديد من المفكرين الذين ولوا وجوههم شطر الغرب وثقافته، فأصبحت قبلتهم وكعبتهم هناك في السوربون أو لندن، وهؤلاء كانت لهم اليد الطولى في تسيير الجانب الفكري والتعليمي في البلاد؛ الأمر الذي ترك أثره واضحا على خريجي المعاهد التعليمية والمدارس التابعة للدولة، فضلا عن انتشار مدارس الإرساليات والمدارس التبشيرية وإنشاء الجامعة الأميركية في لبنان ثم في مصر.
وسط هذه الأجواء كان لابد أن يبزغ فجر يقظة إسلامية، وأن يتفجر شعور إسلامي قوي من قلوب نفر من أبناء الأمة كانوا يراقبون هذا الوضع ويعيشونه، ويرون الأمة تسلخ شخصيتها وتجتث هويتها وهم ينظرون.
فما كان بد من التحرك، ذلك التحرك الذي جاء في صور عديدة ومحاولات بعضها فردي وبعضها جماعي. فشهد النصف الأول من القرن العشرين العديد من محاولات البعث الإسلامي في أكثر من قطر من أقطار العالم الإسلامي، من مصر إلى باكستان، ومن الجزائر إلى الهند.
وكأن الكل يشعر بأن ما هو موجود لا يمثل حقيقة الإسلام بقدر ما يمثل كل أجزاء منه متناثرة لكنها متفرقة متنافرة.
ولما كانت هذه اليقظة الإسلامية التي تمثلت في الحركة الإسلامية المعاصرة بفصائلها المتعددة جاءت ضمن ما جاءت رد فعل لتلك المحاولات الدؤوبة لسلخ شخصية الأمة والقضاء على هويتها الإسلامية، ولتحجيم الإسلام حتى يتحول طقوسا في زوايا واحتفالات في مناسبات، لا شأن له بأمور الحياة، وللفصل القاهر بين حياة الناس بكافة نواحيها وبين الإسلام، الأمر الذي بلغ أن كتب أحد علماء الأزهر أو المحسوبين عليهم كتابا يدافع فيه عن العلمانية بصفتها نظاما يفصل بين الدين والدولة، ويصور الإسلام بأنه دين روحي لا علاقة له بحياة الناس السياسية أو الاقتصادية (الشيخ علي عبدالرازق في الإسلام وأصول الحكم).
في إطارٍ ظاهرُهُ مقبول وحقيقته مرذولة وهذا الإطار هو العلمانية او الليبرالية، التي تدعو إلى فصل الدين عن السياسة،  مستشهدة بكون أن أوربا لم تتطور حتى حبست القساوسة داخل الكنيسة وقطعت الوشائج بين ملوك أوربا وقساوستها.
ناسية أو متناسية أمورا منها :أن الحضارة الغربية بنت للحضارة الإسلامية،  وناسية للفرق بين الكتاب المقدس  ( التوراة والإنجيل )المحرف الذي يناقض كثيرا من الحقائق العلمية .
وبين القرآن المحفوظ بحفظ الله،  والذي يدعو إلى العلم وجاء بحقائق علمية لاتزال معجزة مذهلة.
وشاعت هذه الدعوة في أرجاء العالم الإسلامي حتى بات مقبولا غير مرذول دعوى فصل الدين عن الدولة واحتكام الأمة إلى غير شريعة الإسلام في كافة شؤونها عدا زاوية ضئيلة منها هي الزواج والطلاق والميراث.
وأدى ذلك إلى أن قامت الحركة الإسلامية لتتصدى لذلك كله فكان لابد أن تأتي مسألة إعادة الأمة إلى ذاكرتها وحقيقة إسلامها الذي يستوعب أمور الحياة الدنيا والآخرة، ولا يقبل قط من المسلم أن يعيش بالإسلام في المسجد فإذا خرج منه ذهب يتعامل بغيره بيعا وشراء أو زواجا وطلاقا أو خلقا وقضاءً.
مستدبرا آيات الله وأقوال رسوله صلى الله عليه وسلم  خلف ظهره.
لذلك جاءت مسألة إعادة الأمة إلى الفهم الصحيح لدينها الذي جعل الله قرآنه تبيانا لكل شيء فجاء الإسلام  ليستوعب حياتها كلها في أولويات كثير من فصائل الحركة الإسلامية. وجاءت دعوة الإخوان المسلمين في مصر وفي مقدمة شعاراتها التي سعت لإقناع الجماهير بها: إن الإسلام دين ودولة، مصحف وسيف، عقيدة وعبادة، خلق وقوة…
ولم تكن تجربة الجماعة الإسلامية في باكستان بعيدة عن تجربة الإخوان في مصر، وإن كانت الثانية أسبق زمنا، لكنهما التقيا في جوهر ما يدعوان إليه، حيث انطلقت دعوة كل منهما وفي مقدمة أهدافهما إعادة الجماهير المسلمة إلى فهم الإسلام فهما شاملا يستوعب حياتها كلها ويصوغ كافة شئونها السياسية والاقتصادية والتعليمية… وغير ذلك.
وحتى قبل أن يلج الإخوان في مصر الميدان السياسي ويصبحوا أحد أهم القوى المؤثرة في هذا الميدان، حتى قبل ذلك اتضح تماما من كلمات الشيخ البنا الأولى أنه لا يريد للدعوة أن تنزوي في مساجد، أو يقف اهتمامها على عبادات وأخلاقيات، إنما أن تحدد موقفها من كافة القضايا وفي مقدمتها القضايا الفكرية والسياسية.
وما نحسب تجربة الجماعة الإسلامية بباكستان اختلفت كثيرا - من الناحية النظرية على الأقل - عن تجربة الإخوان في مصر؛ فكتابات المودودي واضحة كل الوضوح في هذا الجانب (انظر منهاج الانقلاب الإسلامي).
وقد كانت هناك جماعات أخرى إسلامية على الساحة، وهي إن لم تعلن صراحة كالإخوان المسلمين أنها قامت للتصدي لفكرة حصر الإسلام في جنبات المساجد، بل وإن بدا للبعض أن هذه الجماعات أو بعضها كالجمعية الشرعية، وجمعية أنصار السنة المحمدية وكلاهما في مصر، وجماعة التبليغ التي عظم نشاطها في باكستان والهند... أقول: وإن بدا للبعض أن هذه الجمعيات نأت بنفسها تماما عن الميدان السياسي وآثرت الاهتمام بالجانب العبادي أو العقائدي أو الأخلاقي فإننا لا نستطيع أن ننسب إلى هذه الجماعات أنها فصلت من الناحية الفكرية بين الدين والدولة أو بين الدين وأي من أمور الحياة، كما تدعو العلمانية.
ليس ذلك صحيحا، ولا نرى في أدبيات هذه الجماعات ما يدل من قريب أو بعيد أنها تثبت فكرة فصل الدين عن الدولة أو السياسة. وغاية ما في الأمر أنها رأت لمصلحة شرعية أن يكون تركيزها على جانب من جوانب الإسلام، إما لأنه الأهم في نظرها، وإما لتفادي الاصطدام بالأنظمة الحاكمة.
لكننا لم نعثر على جماعة من الجماعات العاملة في ميدان الدعوة الإسلامية تبنت من الناحية الفكرية فكرة فصل الدين عن الدولة؛ لأنها حينئذ سوف يصعب وصفها بأنها قامت منطلقة من فكرة إسلامية أساسها القرآن الكريم، وستكون قد تنكرت لفكرة الحكم والخلافة التي عاش المسلمون أكثر من ألف وثلاثمئة عام يلتفون حولها ويؤمنون بضرورة وجودها.
وهكذا فتحت أجيال كثيرة من الأمة عيونها على الحقيقة التي أراد الغرب أن يطمسها. وهي أن السياسة جزء من النظام الإسلامي الشامل. 
الذي يحوي أنظمة كثيرة مترابطة بمجموعها يتكون المنهج الرباني الذي يبدأ بالتوحيد والأخلاق وينتهي بالحدود والجهاد، مرورا بنظامه التعبدي والتعاملي و الاقتصادي والجمالي الفني، وانتهاء بالحضارة والمدنية التي لا تزال آثار أمتنا تملأ مشارق الأرض ومغاربها.

ملاحظة

أصل المقالة للكاتب محمد السيد حسين في مجلة الوسط البحرينية.




شارك الموضوع

إقرأ أيضًا