بين الدولة الإسلامية والدولة المدنية





بين الدولة الإسلامية والدولة المدنية
محمد حميد رشيد
كاتب وباحث
    نعم إن (الدولة المدنية) ليست رديفة لـ(الدولة الإسلامية) فلدولة الإسلامية معناها المصطلحي المحدد وهي التي تؤمن بالإسلام عقيدة ونظاماً إحكام وتشريعاً وتلتزم به وتطبقه . و(الدولة المدنية) لا تتبنى عقيدة محددة (يمكن تحديدها في حالة المجتمعات المسلمة المؤثرة بعبارة "لا تتناقض مع الإسلام")  وهي دولة (عادلة) تمنح (الحرية للدعاة الإسلاميين) كما تمنحها للجميع في الدعوة الحرة إلى معتقدهم بشكل عادل ومتساو وتمنع عنهم الطغيان والتعسف والإضطهاد بشتى أنواعه ومنه (إضطهاد الدولة وأجهزتها الأمنية) وتوفر لهم الأمن والآمان وليس فيها (سجناء رأي) وهي بالنسبة للإسلاميين على أقل تقدير (دار آمان) لهم فيها يقيم (المسلم) بإداء شعائره الدينية ويقول رأيه بلا خوف ؛ بل هي أكثر من ذلك حيث توفر لهم (فرصة) كاملة لدعوة الناس وإقناعهم بفكرهم وعقيدتهم والترويج إلى شكل الدولة التي يريدونها بشكل (حضاري) ومسالم وآمن ويعطي صورة صحيحة ومتكاملة عن الإسلام المعتدل الوسطي { وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ... } سورة البقرة 143. وصولاً إلى (الدولة الإسلامية المبتغاة) . ويمكن بهذا التصور إعتبار الدولة المدنية مرحلة من المراحل نحو الدولة الإسلامية إن لم تكن (بصيغة ما) شكل من أشكال الدولة الإسلامية !
   ثم إن (الدولة الإسلامية) ليست دولة دينية (ثيوقراطية) كهنوتية (تقوم على الحكم بالحق الإلهي المطلق، حيث يزعم الحاكم أنه يحكم نيابة عن الله، وأنه مفوض منه) وهذا المعنى مرفوض في الإسلام ؛ بل هي من حيث المعنى المصطلحي أقرب إلى الدولة المدنية التي نشأت مناقضة للدولة (الثيوقراطية) تعتمد الإجتهاد الإنساني بمرجعية إسلامية (رغم كون الدولة المدنية في أصل تعريفها لا تعترف بأي مرجعية دينية لكن من ما لا شك فيه أن الرؤيا الدينية التي ترفضها الدولة المدنية والقائمة على الحق الإلهي يرفضها التصور الإسلامي للحكم والدولة و له تصور مختلف تماماً فالحاكم إنسان عادي يتم إختياره وفق آليات بشرية عادية يصيب ويخطاء ويمكن عزله ولا يحمل أي تفويض إللاهي ويخطيء ويصيب وحاله حال أي حاكم مدني آخر) وفي ذلك مبحث طويل ومفصل
نعم أن الزمان تغيير وأن لكل زمان أدواته و وسائله وأسلحته وإن (الدعوة والإعلام) من أهم أسلحة و وسائل زماننا المعاصر ومن الضروري إعتماد لغة العصر ومصطلحاته .
         التطور اللغوي الإصطلاحي :
    وكما أن (المصطلح) يتطور فإن (اللغة) هي الأخرى تتغيير و وتتطور والوسائل تتغيير وتتطور ؛ ومن المهم الفصل بين ما هو (مقدس) وثابت لا يحتمل التغيير وبين ما هو (إجتهاد) وتراث إنساني متغيير ومتبدل ومتطور بطبيعته ومتدرج ومتسلسل .
   وإطلاق الإحكام المسبقة على (المصطلحات) دون التعامل مع غايتها ومعانيها الإصطلاحية الحقيقية قد يسلبنا الكثير من (حقوقنا المدنية) بل قد يضعنا في موضع الإتهام ويساء فهمنا ويدخلنا في معارك جانبية لا طائل منها ولا جدوى غير التشكيك في عقيدتنا وفي ديننا ونحن في غننا عن ذلك ويساهم في عزلنا عن المجتمع ونحن بأمس الحاجة إلى التعايش المدني المتحضر معه كل ذلك لأننا عجزنا عن حل (إشكالية لغوية) قد لا تكون بسيطة وقد تكون بحاجة إلى توضيح أو تعديل بسيط أو إصلاح دون الإنعزال أو الرفض المسبق . ومساوء الإنعزال ومخاطره ومفاسده أكبر من مساوء إستخدام مصطلح نحن نتحكم بمعناه الواقعي!. وغالباً ما يكون تعكزاً وإنغلاقاً على تراث الأقدمين دون أي جهد إجتهادي معاصر و اللغة والمصطلح أمرٌ إجتهادي صرف.

        الهجرة إلى دولة مدنية!
     ولعل في تجربة (الهجرات) والبحث عن مكان آمن (مأوى) للدعاة وللدعوة (إضافة إلى مبررات الهجرة الأخرى) ما يوضح فكرة (الدولة المدنية) كدولة آمنة (( وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)) النساء 100.
    وبالذات (الهجرة إلى أرض الحبشة) (الأولى والثانية) وهي أول دار هجرة وأخر دار بقي فيها المهاجرون ومن أسباب الهجرة إليها ما قاله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [إن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد.] أي أن مجرد وجود دار فيها حاكم عادل جعلتها مكان آمن يهاجر إليه المسلمون ويأتمنوهم ويأتمنهم الأحباش !
   قالت أم سلمة: "لما ضاقت مكة وأوذي أصحاب رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في منعه من قومه ومن عمه لا يصل إليه شيء مما يكره ، ومما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم:
   (( إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم أحد عنده، فألحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه، فخرجنا إليها إرسالاً حتى اجتمعنابها..)) . السيرة لابن كثير 1/17، وسنده صحيح.
  فكانت الهجرة إلى (الحبشة) من أهم وأكبر الهجرات وكانت الهجرة الأولى في رجب من السنة الخامسة (الواقدي) من البعثة النبوية  ومن المهاجرين إليها وغالبيتهم من ذوي النسب والمكانة في قريش، ويمثلون عدداً من القبائل و من كبار الصحابة منهم إبنته صلى الله عليه وسلم (رقية) و (عثمان بن عفان) و(جعفر بن أبي طالب) و (عبد الرحمن بن عوف) و (الزبير بن عوام) و (مصعب بن عمير) و(عثمان بن مضعون) و(عامربن أبي ربيعة) و (أم حبيبة رملة بن بنت عميس أبي سفيان) و (أسماء) و(أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة)
وعند خروج (المهاجرين) إلى الحبشة (النصرانية) نزلت سورة (مريم) وفي ذلك دلالة واضحة وتوجيه عظيم للمسلمين وهي تتحدث عن سيدتنا مريم وسيدنا عيسى ويحيى وزكريا عليهم السلام ؛ ولكي تتحدد العلاقة بين الطرفين (النصارى الأحباش ومن هاجر إليهم من المسلمين) ولكي يكون المسلمين من (المهاجرين وغيرهم)على دراية تامة بدين البلد الذي هاجر إليه مجموعة منهم  وكيفية التعامل معهم وإحترامهم وإحترام دينهم .
    وهنا لابد أن نتذكر بعض وقائع الهجرة الأولى والثانية الى الحبشة وما قاله جعفر بن أبي طالب لملك الحبشة بعد أن سأله الملك :
  وفي رواية (عروة بن الزبير في كتاب "مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم") أن النجاشي سأل المهاجرين قائلاً: أخبروني أيها الرهط ما جاء بكم؟ وما شأنكم؟ ولمَ أتيتموني ولستم بتجّار ولا سؤال؟  وما نبيكم هذا الذي خرج؟ وأخبروني ما لكم لمَ لا تحيّوني كما يحييني  من أتاني من أهل بلدكم؟ وأخبروني ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ .
  فأجابه جعفر بن أبي طالب فقال له (في رواية أم سلمة) : [ أيها الملك، كنا قوماً أهل الجاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وأباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده  ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكات والصيام – قالت: فعدد عليه أمور الإسلام – فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرّمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن دينا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عباد الله تعالى، وأن نستحل مـا كنـا نسـتحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك، قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: كهيعص: قالت: فبكي والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون.
  قالت: فلمنا خرجا من عنده، قال عمرو بن العاص، والله لآتينه غداً عنهم بما استأصل به خضراءهم، قالت: قال له عبدالله بن أبي ربيعة، وكان أتقى الرجلين فينا: لا نفعل، فإن لهم أرحاماً، وإن كانوا قد خالفونا؛ قال: " والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبدٌ،  قالت: ثم غدا عليه من الغد: فقال له: أيا الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فسلهم عمّا يقولون فيه. قالت: فأرسل إليهم ليسألهم عنه. قالت: ولم ينزل بنا مثلها قط. فاجتمع القوم، ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقوا والله ما قال الله عزوجل، وما جاءنا به نبينا، كائناً في ذلك ما هو كائن، قالت: فلما دخلوا عليه قال لهم ماذا تقولون في عيسى بن مريم، قالت: فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا  ، يقول: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، قالت: فضرب النجاشي بيده إلى الأرض، فأخذ منها، ثم قال: والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود، قالت: فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم شُيوم بأرضي  – والشيوم الآمنون –  ثم قال من سبكم غرم، ما أحب أن براً من ذهب، وأني آذيت رجلاً منكم –قال ابن هشام: ويقال دبراً من ذهب، ويقال: فأنتم سيوم والدبر( بلسان الحبشة ): الجبل – ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار.
قالت: فوالله إنا لعلى ذلك إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه  في ملكه، قالت: فوالله ما علمتُنا حزناً قط كان أشد علينا من حُزن حزناه عند ذلك، تخوفاً أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي، فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه. قالت: وسار إليه النجاشي، وبينهما عرض النيل قالت: فقال أصحاب رسول الله : من رجل يخرج حتى يحضر وقيعة القوم ثم يأتينا الخبر؟ قالت: فقال الزبير بن  العوام: أنا؛ فقالوا: فأنت، وكان من أحدث القوم سناً، قالت: فنفخوا  له قربة فجعلها في صدره، ثم سـبح عليها حتى خــرج إلى ناحية النيل التي بما ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم، قالت: فدعونا الله تعالى للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكين له في بلاده قالت: فوالله إنا لعلى ذلك متوقعون لما هو كائن، إذ طلع الزبير وهو يسعى، فلمع بثوبه وهو  يقول: ألا أبشروا، فقد ظفر النجاشي، وأهلك الله عدوه، ومكن له في بلاده قالت فوالله ما علمتُنا فرحنا فرحة قط مثلها، قالت: ورجع النجاشي، وقد أهلك الله عدوه، ومن له في بلاده، واستوسق عليه أمرُ  الحبشة، فكنا عنده في خير منزل، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو  بمكة.   انظر: السيرة لابن هشام 1/413-418 (من رواية أم سلمة لحديث الهجرة الطويل، رواه أحمد في المسند 5/290، بإسناد صحيح، ورواه ابن إسحاق في السيرة كما في سيرة ابن هشام 1/359، وانظر: أحاديث الهجرة، د. سليمان السعود ص 27، 29.)
وبقي المسلمون في الحبشة خمسة عشر سنة معززين مكرمين آمنين حتى بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لكي تبقى (الحبشة) قاعدة للإسلام هناك . بل ساهم المسلمون على ما في وسعهم بالحفاظ على ذلك النظام وحمايته والدعاء له رغم أنه لم يكن (نظاماً إسلامياً). 
وفيما تقدم من حديث الهجرة إلى الحبشة دلالاته وأحكامه المهمة ومن ما له علاقة بموضوع بحثنا لابد من دراستها ومقارنتها مع أوضاعنا الحالية بشكل عام وأوضاع المهاجرين في بلدان الغرب بشكل خاص ومن ذلك :
علاقة المهاجرين المسلمين الى البلدان غير الإسلامية بأهلها من غير المسلمين وعلاقتهم بالأنظمة التي وفرت لهم حرية العقيدة والأمان .
علاقة المسلمين بالنصارى
أهمية وجود دار أمان للدعاة وللدعوة وللمسلمين بشكل عام .
وجوب تطمين أهل المأوى والعمل معهم على توفير الآمان في دار الهجرة والإلتزام بانظمتهم العامة.
  وفيما يتعلق بأصل بحثنا فأني أعتقد إن بإمكان جميع أصحاب التوجهات الإسلامية بموجب هذا قياس (دار هجرة الحبشة وبقاء المسلمين فيها خمسة عشر سنة) على (الدولة المدنية العادلة منقوصة الشرعية الدينية) على أقل تقدير إن لم تكن (مرحلة على طريق الدولة المتكاملة الأركان والشرعية) أو (مرحلة إسلامية على طريق التمكين) أو (مرحلة م ن مراحل الدعوة الإسلامية) وكلما أتسعت (الدعوة  الإسلامية) وزاد أنصارها وزاد إقتناع الناس بها من خلال ما تتيحه (الدولة المدنية العادلة) من أمان للدعاة وحرية للدعوة أقترب الناس أكثر من دينهم وكلما كان تأثير الإسلاميين أكثر على المجتمع وعلى الدولة بكل مؤسساتها وترسخت عقيدة الإسلام في نفوس الناس وهم في النهاية (في ظل الدولة المدنية وقوانينها) من يقرروا شكل الدولة التي يريدونها وهم من يختاروا من يأتمنونهم لإدارتها بالشكل والوسائل التي يرتضونها والأهم من كل ذلك هم (الناس) من سيتولون حماية منجزات الدعاة ويتقدمون مراحل بالدعوة وهم في النهاية من سيدافعون عن الإسلام ويكونون دعاة له لا أعداء ...





شارك الموضوع

إقرأ أيضًا