من قواعد السياسة الشرعية (الحلقة الثالثة: الطاعة)



من قواعد السياسة الشرعية ح/3
الطاعة
د. عبد الكريم العاني
أكاديمي وباحث
وهي ثالث قاعدة أساسية من قواعد السياسة الشرعية، فطاعة أولي الأمر أمرٌ أقره كتاب الله والسنة النبوية الشريفة في بيان صريح، كقوله تعالى: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْر ِمِنْكُمْ{([1])، فالأمر هنا للوجوب، ولأولي الأمر تأويلان أحدهما أنهم الأمراء وهذا قول ابن عباس رضوان الله عليه، والثاني أنهم العلماء وهذا قول جابر بن عبد الله t والحسن وعطاء([2]) رحمه الله تعالى([3])، لكن الذي أريده هنا التأويل الأول وهم الأمراء وهناك نصوص شريفة من السنة المطهرة تؤيد الأمر بطاعة الأمراء، منها قوله r: "اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ"([4])، وقوله r أيضاً: "عَلَيْكَ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ فِي عُسْرِكَ وَيُسْرِكَ وَمَنْشَطِكَ وَمَكْرَهِكَ وَأَثَرَةٍ عَلَيْكَ"([5])، بل إنَّ رسول الله r قرن طاعة الأمير بطاعته بقوله عليه أفضل الصلاة والسلام: "مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي"([6])، لكن يضبط هذه الطاعة أمور ثلاثة:
الأول: أن تكون في الله تعالى، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، يؤيد ذلك قوله r: "السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ عَلَيْهِ وَلَا طَاعَةَ"([7])، ويقول الإمام  محمد بن حسن الشيباني رحمه الله تعالى: "إِذَا دَخَلَ الْعَسْكَرُ دَارَ الْحَرْبِ لِلْقِتَالِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ U فَأَمَرَهُمْ أَمِيرُهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْحَرْبِ، فَإِنْ كَانَ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مَنْفَعَةٌ لَهُمْ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُطِيعُوهُ لقوله تعالى: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْر ِمِنْكُمْ{([8])، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، لِأَنَّ فَرْضِيَّةَ الطَّاعَةِ ثَابِتَةٌ بِنَصٍّ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَمَا تَرَدَّدَ لَهُمْ مِنْ الرَّأْيِ فِي أَنَّ مَا أمرََ بِهِ مُنْتَفَعٌ أَوْ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِلنَّصِّ الْمَقْطُوعِ .
وَقَدْ تَكُونُ طَاعَةُ الْأَمِيرِ فِي الْكَفِّ عَنْ الْقِتَالِ خَيْرًا مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْقِتَالِ. وَقَدْ يَكُونُ الظَّاهِرُ الَّذِي يَعْتَمِدُهُ الْجُنْدُ يَدُلُّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَالْأَمْرُ فِي الْحَقِيقَةِ بِخِلَافِ ذَلِكَ عِنْدَ الْأَمِيرِ، وَلَا يَرَى الصَّوَابَ فِي أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى مَا هُوَ الْحَقِيقَةُ عَامَّةُ الْجُنْدِ. فَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِمْ الطَّاعَةُ مَا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِأَمْرٍ يَخَافُونَ فِيهِ الْهَلَكَةَ، وَعَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ رَأْيِ جَمَاعَتِهِمْ، لَا يَشُكُّونَ فِي ذَلِكَ. فَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَلَا طَاعَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ، لقوله r" لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"([9]) ([10])، "فَمَنْ أَمَرَهُ الْوَالِي بِقَتْلِ رَجُلٍ ظُلْمًا أَوْ قَطْعِهِ أَوْ جَلْدِهِ أَوْ أَخْذِ مَالَهُ أَوْ بَيْعِ مَتَاعِهِ فَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ عَصَاهُ وَقَعَ بِهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ ظَهْرِهِ أَوْ مَالِهِ، فَإِنْ أَطَاعَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ وَالْقَطْعُ وَالْغُرْمُ وَغُرِّمَ ثَمَنَ مَا بَاعَ"([11]).
مثال ذلك لو أمر الأمير بترك الصلاة خوف العدو ليس له ذلك، لأنه أمر بالمعصية فلا يطاع لأن الصلاة تؤول إلى خلف وهي صلاة الخوف، أو يأمرهم بنزع الحجاب بحجة أن البلد يحاول أن يرتقي بالبلد نحو الحضارة فليس له ذلك، لأنه أمر بالمعصية فلا يطاع.

ثانياً: أن تكون الطاعة في المعروف.
فعَنْ عَلِيٍّ t قَالَ: "بَعَثَ النَّبِيُّ r سَرِيَّةً فَاسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ فَقَالَ أَلَيْسَ أَمَرَكُمْ النَّبِيُّ r أَنْ تُطِيعُونِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا، فَجَمَعُوا، فَقَالَ: أَوْقِدُوا نَارًا، فَأَوْقَدُوهَا، فَقَالَ: ادْخُلُوهَا فَهَمُّوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا، وَيَقُولُونَ فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيِّ r مِنْ النَّارِ فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتْ النَّارُ، وسَكَنَ غَضَبُهُ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ r، فَقَالَ: لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ!"([12])
بمعنى أن هذه الطاعة مقيدة بأن تكون في المعروف، مثال ذلك: "جَوَازُ نَهْيِ الْإِمَامِ وَأَمِيرِ الْجَيْشِ لِلْغُزَاةِ عَنْ نَحْرِ ظُهُورِهِمْ وَإِنْ احْتَاجُوا إلَيْهِ خَشْيَةَ أَنْ يَحْتَاجُوا إلَى ظَهْرِهِمْ عِنْدَ لِقَاءِ عَدُوّهِمْ وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ الطّاعَةُ إذَا نَهَاهُمْ"([13])

ثالثاً: "إن تنازعوا في شيء ردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله r وان لم تفعل ولاة الأمر ذلك أطيعوا فيما يأمرون به من طاعة الله ورسوله r فقط، لان ذلك من طاعة الله ورسوله وأديت حقوقهم إليهم كما أمر الله ورسوله r"([14]).





([1]) سورة النساء، جزء من آية 59.
([2]) وهو تلميذ حبر الأمة ابن عباس رضل الله عنهما، ومفتي أهل مكة ومحدثهم عطاء بن أبي رباح المكي من موالي آل ميسرة الفهري، الفقيه الثقة المحدث من كبار التابعين، قال عن نفسه رأيت مائتين من الصحابة رضي الله عنهم، توفي رحمه الله تعالى سنة أربع عشرة بعد المائة للهجرة.
ينظر:: ابن سعد: الطبقات الكبرى، 2/386.
([3])الإمام الماوردي: الأحكام السلطانية، ص 50.
([4]) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك t، كتاب الأَحْكَامِ، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، برقم (6723)، 6/2612.
([5]) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة t، كتاب الفتن، بَاب قول النبي r سترون بعدي أمورا تنكرونها، برقم (6647)، 6/2588؛ والإمام مسلم في صحيحه، كتاب الْإِمَارَةِ، بَاب وُجُوبِ طَاعَةِ الْأُمَرَاءِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ وَتَحْرِيمِهَا فِي الْمَعْصِيَةِ، برقم (1835)، 3/1467، واللفظ لمسلم
([6]) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة t كتاب الأَحْكَامِ، بَاب قَوْلِ الله U: َ{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ }، برقم (6718)، 6/2611.
([7]) أخرجه البخاري في صحيحه عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام، برقم (2769)، 3/1080.
([8]) سورة النساء، جزء من آية 59.
([9]) أخرجه أبن أبي شيبة في المصنف عن الحسن t، كتاب الجهاد، باب في إمام السرية يأمرهم بالمعصية، 7/737.
([10]) الشيباني: السير الكبير، 1/166.
([11]) ابن فرحون: تبصرة الحكام، 2/140.
([12]) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن علي t، كتاب الأحكام، باب الطاعة للإمام مالم تكون معصية، برقم (6726)، 6/2612؛ والإمام مسلم في صحيحه، كتاب الْإِمَارَةِ، بَاب وُجُوبِ طَاعَةِ الْأُمَرَاءِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ وَتَحْرِيمِهَا فِي الْمَعْصِيَةِ، برقم (1840)، 3/1469.
([13]) ابن القيم: زاد المعاد، 3/344.
([14]) شيخ الإسلام ابن تيمية تقي الدين أحمد بن تيمية أبو العباس (ت_728هـ)، مجموع الفتاوى، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي الحنبلي، (د.ط، عالم الكتب، الرياض، المملكة العربية السعودية، 1412هـ _1991م)، 28/245.

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا