تشكيل الرؤية في العمل الإسلامي و اثره في مسار العاملين


تشكيل الرؤية في العمل الإسلامي و اثره في مسار العاملين
د. هشام الأنيس
أكاديمي وباحث
تشكّل الرؤية إحدى أهم معطيات العمل المؤسسي منذ زمن ليس قريباً، و التي ربما كانت حاضرة في وقت مبكّر دون أن تكتسب مفهمومها الاصطلاحي و تصبح مصطلحا لها قواعد و أصول كتابة، و هي في مجملها لا تخرج عن كونها" الصورة الذهنية المستقبلية للفرد أو المؤسسة، كما أنها الحالة الأفضل التي تجتذب كلّ الأهداف و المهام التي تسير معاً للوصول إليها" ، وهي ما نحلم أن نراه و أن يتحقق بعد فترة زمنية قد تطول و قد تقصر، و إنّ هذه الرؤية و الصورة المستقبلية وجدناها حاضرة في تعامل الرسول صلى الله عليه و سلم عندما جعل نصب عينيه صورة المجتمع المسلم المحقق للتمكين و قد وردت حوادث تشير إلى ذلك منها مثلاً: وعن أبي عبد الله خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا ؟ فقال قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون" رواه البخاري ،وحديث سلمان الفارسي أنه قال: ضربت في ناحية من الخندق، فغلظت علي صخرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب مني، فلما رآني أضرب، ورأى شدة المكان علي، نزل فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى، قال: ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى، قال: قلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما هذا الذي رأيت، لمع تحت المعول وأنت تضرب؟
قال: «أوقد رأيت ذلك يا سلمان؟» قال: قلت: نعم.
قال: «أما الأولى فإن الله فتح علي باب اليمن، وأما الثانية فإن الله فتح علي باب الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق»، فالرؤية حاضرة في نفس الواثق بمنهجه و تأييد الله له، إنّه عليه الصلاة و السلام يحدّثهم عن صورة الإسلام المستقبلية و هي ذاتها الرؤية التي تحدّثت عنها كتب التخطيط و الإدارة و القيادة، و هناك أحاديث كثيرة يمكن الرجوع إليها في التأصيل لهذا المفهوم.
  كما هو معلوم فإن أية مؤسسة تسعى جاهدة لبلوغ الصورة المستقبلية و تحققها في الواقع و العمل الإسلامي ليس بدعا في ذلك، بل إن الأمر يتأكد في مسار العمل الإسلامي خاصة مع وجود مقوّمات مسبقة منصوص عليها صراحة أو ضمنا في مصادر التشريع الإسلامي أو مصادر العمل الحركي في العالم المعاصر، فالنص القرآني يحدد مطلب الوجود و الخلق بقوله تعالى " و ما خلقت الجنّ و الإنس إلا ليعبدون" و الاستخلاف في الأرض كان الأصل في بدء الخليقة و خلق آدم  بقوله تعالى " و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" و لكن مع التباعد الزمني و الفكري و تراجع التمكين استجدّت في الواقع ظروف أنقصت من حضور المشروع الإسلامي كاملا ، فحدا العاملين في وقت مبكّر إلى بناء رؤيتهم لإعادة المشروع إلى أرض الواقع و إعمالِ تأثيره فيه، قد تكون الرؤى في وقت سابق مختلطة بالهدف أو الوظيفة أو الرسالة و هي مصطلحات اصبح التفريق بينها من مستلزمات الوعي الإداري و التخطيطي، و لكن هذا التداخل لم يغادر الغاية الأصل و هي التمكين، من هنا سعت الحركة افسلامية إلى بناء رؤية اتسمت بالشمول و العمومية متأثرة بمفهوم الإسلام الشامل لكل مظاهر الحياة، و لكن مع مرور الوقت و تراجع التمكين و زيادة الضغط على الحركات الإسلامية الذي أخّر المشروع الإسلامي و زاحمه، بدأت الأنظار تتجه إلى حيز السؤال عن مدى واقعية الرؤية التي وضعها العاملون للإسلام و مدى قدرتنا على الوصول إليها و قدرتنا على التكيّف و المرونة في التعامل مع مستجدات العداء و الحرب القائمة على المشروع، حتى جعل البعض يفكّر بجدية بالغة بضرورة تغيير خطابنا الإسلامي و تكييفه بما يتلاءم مع واقع الخصوم، و أصبحت الرؤية/ الصورة الحلُم و المستقبل لا تلقى بالا أو أهمية عند العاملين فانخفض سقف الأهداف بعدها  و الذي أحدث شقاً و حفر خندقا بين الرؤية و بين الأهداف التي تغيّرت و تحددت أكثر، و التي لم يميّز هذا البعض بين ما هو مطلوب شرعا و ما تحتّمه ضغوطات و تضييق المخالفين التي تريد عملا إسلاميا يحقق أهدافه وفق آليات جديدة و معاصرة، هي قد أثبتت عجزها في تحقيق العدالة بين البشر، او أنها فُصّلتْ لتلائم وضع الخصوم و تكرّس حظوظهم في التمكين حتى على بلاد الإسلام و المسلمين.
السؤال هو عن الرؤية التي يجب أن يتبنّاها العمل الإسلامي في زحمة هذه الظروف الداخلية و الخارجية التي تضغط باتجاهات مختلفة أستطاعت أن تُحدِث لغطا في صفوف العاملين، خاصة في الظروف التي تمرّ بها الحركات الإسلامية و عدم قدرتها على التواصل  أو السماح لها ببيان مشروعها و رؤيتها المستقبلية.
من المؤكد أنّ مهام كبيرة ينبغي على المربين و العاملين في العمل التربيوي القيام بها و حفظ الحركة من حالة التشرذم والتشتت، و بذل الجهد في الحفاظ على تماسك العمل و شدّ بعضه إلى بعض، و لكن الأمر لا يقف عند هذه الطائفة إذ إنّها لا تغطّي إلا جزءا من المطلوب، و إذا كانت قادرة على تحويل المشكلة إلى أنها مشكلة تربوية عند البعض إلا أنها لن تستطيع إقناع الآخرين الذي يرصدون المشكلة و يعدّونها مشكلة متعددة الاتجاهات لا تخص التربية و إصلاح الفرد و تكوين شخصيته الإيمانية، و إنما تطال المساحات الأخرى المكوّنة لشخصية الداعية من الناحية الفكرية و الحركية، و بسبب حصر المشكلة بأنها مشكلة تربوية إيمانية توّلدت مشكلة جديدة و ثغرة لم تتم محاصرتها بشكل صحيح فظهرت على الواقع بشكل غير مقبول، و الذي بدوره جعل البعض ينفر من كل إصلاح أو عملية ترميم جزئي لا يعالج المشكلة  و جذورها، فالثقة مثلا مفهوم تربوي مهم، و هو أسُّ كثير من المقومات الشخصية و لكن دون الرجوع إلى أسباب غيابها فلنْ تكون المعالجة شاملة و وافية، فقد يكون غياب هذه الثقة سببه افتقار العمل إلى رؤية و تصوّر واضح لما يسعى العاملون الوصل إليه، و هذا الذي يدعونا إلى الحديث عن الإطار الفكري و الحركي الذي ينبغي حضوره في العمل الإسلامي على مختلف أفراده و مواقعهم.
إنّ افتقار العمل لرؤية مستنيرة و واضحة و محددة و ضمن الإمكانات يعرّض العمل لجملة من المشاكل ابتداء من ضعف دور القيادة و منزلتها في نفوس العاملين و انتهاء بحالة اللاجدوى التي تعصف بالعاملين أنفسهم مع كل يوم يمرّ عليهم و هم يراوحون في مكانهم، فلا نصر يلوح في الأفق و لا مؤشرات تحقيق للأهداف، و هنا تبدا التساؤلات تفرض حضورها و من المؤكد أنها لن تجد أجوبة مقنعة في حالةٍ كهذه.
و إنّ من شروط تقنين هذه الرؤية هو مراعاتها للوضع الداخلي للحركة و الوضع الخارجي، و هذا يستلزم قراءة واعية و معرفة بالموقع الذي تعيشه  الحركة و تشغله، و هذه المعرفة هي المؤشر الأول لصحة وضعها، فالمتغيرات أصبحت بالساعات بعد أنْ كانت تُحسب بالشهور و السنوات، إنّ التصور المطلوب لمرحلة اليوم يتطلّب تغييرا في مفهوم حضور الآخر الإسلامي الذي ينبغي أنْ يشارك الحركة في أداء رسالتها المتفق على أصولها و غاياتها بين هذه الأطراف، و يتطلّب موقفا مثل موقف النبي الأكرم صلى الله عليه و سلّم عند اختلاف القبائل على نيل شرف حمل الحجر الأسود و وضعه مكانه، و هذا التغيير يحتاج شجاعة و تواضعا في الوقت ذاته لضمان تجميع الجهود المشتتة، فإنّ الأعداء يعادون الحركة و الإسلام كافّة فلابد أنْ يردّ العاملون عليهم كافّة.
 و من شروط تقنين الرؤية و ضمان تحققها على المدى المخطط له، أن تأخذ دورها في حيّز التنفيذ، بمعنى أنها تتخلل كل مفاصل العمل و تكون حاضرة في الوعي و النفس، و تتضمنها البرامج التنفيذية، و هذا الذي يجعل كتابة الرؤية مرحلة متقدّمة و لاحقة تتأسس على استشارات و قراءة و معرفة بالمحيط الذي سنحققها فيه.
و لابد من الإشارة إلى أنّ بقاء العاملين فترة طويلة في انتظار الرؤية و إنزالها حيز التوعية و التنفيذ سيكون له تأثير سلبي، خاصة في مرحلة الترقّب بعد الخروج من أزمات ما يزال العاملون منهكين بعدها، كما أنّ له تأثيراً آخر هو شعور العاملين بعجز الحركة عن صياغة و معرفة ما تريد، و هذا من أخطر مداخل الضعف و التهوين، لذا فإنّ الأمر يتطلب تحشيدا تجتمع فيه الاختصاصات و أهل النظر و الفكر، ليكونوا عونا و يُسهِموا بدورهم، و أنْ تكون القيادة قد حددت لهم مسار التفكير و الإشكالات و التحديات حتى يكون التفكير واقعيا لا يستغرق في التفاصيل و التنظير، فما تحتاجه الحركة بعد الأزمات هو ليس إعادة النظر بكل شيء و لا إجراء تغييرات جذرية، فمن الظلم و ضعف المنطق أنْ تُهدَر كل الإنجازات و الخطط، فإن الحركة إذا وصلت إلى مرحلة التغيير هذه فهذا يعني شيئا واحداً هو موت هذه الحركة، و هذا ما يستحيل وصفها به، و لكن الأصوب أنْ ينظر إلى عمل الحركة بمنطق موضوعي يبتّ بمسائل متعددة منها ما يتعلق بالأرض التي تقف عليها الحركة اليوم، و بطبيعة المتربصين بها، و بالإمكانات المتوافرة، و بنوع الخبرات التي تمتلكها، و إمكانية تحريكها نحو تحقيق هذه الرؤية و صياغة الأهداف و المهام الوسائل المفضية إلى الرؤية التي ستكون مساحة جاذبة لفعل العاملين و خبراتهم.



شارك الموضوع

إقرأ أيضًا