أين نحن من العمل المؤسسي؟


د. وليد البياتي
كاتب وباحث


نود في هذا المقال التمعن في اهمية الدخول الى عالم المؤسساتية للتوجيه التربوي وموجاته التي تضخ الى ساحاتنا، ونستند في ذلك على دعامتين كبيرتين:
اولاهما: عراقة وحضارة المجتمع،
ثانيهما: الالتزام الجاد والعملي بمخرجات الجهد البشري في عالم الإدراك والمعرفة،
إن مجتمعاتنا الاسلامية بمن الله وفضله تمتلك عراقة وحضارة بشهادتنا على أنفسنا وشهادة غيرنا علينا، لكننا نعاني من الشق المتعلق بالالتزام الجاد والتفاعل مع مخرجات الجهد البشري في عالم المعرفة وتوظيفها،
فنحن كمجتمع مسلم نمتلك جذورا وعراقة وعمقا واستعدادا لتفعيل مبادئ العمل الجمعي، وذلك ظاهر بيّن، في التزام الملايين بالسلوكيات اليومية التي تولد كاستجابة ارادية أو لا إرادية للتوجيهات الربانية والسنن النبوية والاخلاقيات الاسلامية، التي تزرع في النفوس الاستعداد والقناعة العميقة بالعمل الجمعي، وتحث على التعاون على البر والتقوى واعمال الخير بانواعها المختلفة،
 فالانتظام الفوري لملايين المصلين بدقة وصرامة خلال ثوان استجابة لتكبيرة امام الحرم خير مثال على السليقة التي تربت عليها هذه المجتمعات، وتثبت امكانية جمعهم وتوجيههم وادارتهم وقيادتهم بقناعة ومحبة، انها تعكس تأصل الحضارة وتجذر العراقة في مجتمعاتنا،
لكن فقداننا الشق الثاني والخاص بتفعيل مخرجات الجهد البشري لعالم المعرفة هو الذي فتك بواقعنا، 
إن سبق الآخرين في ميادين المعرفة وادارتهم وتوظيفهم لها بل وابتكارهم لنظمها وبرامجها وقوانينها لعقود وتمكنهم من اسبابها ومسبباتها اورثنا نقصا مزمنا في الهمة والعزيمة لتتبعها وتبنيها،
لقد ران علينا جرائها عجز عميق حال بيننا وبين سعينا للاستدراك والسبق المعرفي، وخمد قناعتنا بجدوى تتبعها وتبنيها والالتزام بها،
ان غفلتنا وتغافلنا عن نظريات العمل الحديثة ونبذنا لها ميدانيا واستساغة ابتعاد مجتمعاتنا عنها واستهانتنا بها تجعلنا نبدوا وكأننا من كوكب آخر، وكأننا لسنا معنيين بها وغير آبهين بالعمل وفقها،
ان تفاعلنا معها يشوبها سخرية واستهانة تصل غالبا الى درجة التخلي التام عنها وعدم مواكبة تطورها وعزوفا عن انتظار نتائج وتوصيات تنفيذها.
ان خذلان معرفتنا بالتوجهات والنظريات الحديثة في الفكر والادارة وبحوث العمليات ونظم التنفيذ والاعلام والدراسات النفسية وعدم توظيفنا لتفاصيلها في مجالات حياتنا المجتمعية هي السبب في فشل مشاريعنا المؤسساتية وتوسيع فجوة التخلف في بلداننا وابتعادنا عن ركب المجتمعات المتقدمة.
فنحن مع ادراكنا لاهمية المؤسساتية نظريا، إلا أننا نستهين بالمفهوم الصحيح للعمل وفقها ونتجنب نظمها وقوانينها ونزهد باهمية الاستعداد الثقافي والتربوي والنفسي اللازم لمواكبتها والممهد لتشرب النفوس بها والتطبع على مبادئها،
إننا لا نبالي بتفعيل اساليب التنفيذ الحديثة وفق منهجية تزامن الخطوات التنفيذية ونظرية الزمن الحقيقي وخطوط العمل المتوازي والمتوالي، ولا نستفيد من بحوث توصيف موجات ودورات الظواهر البشرية واطوارها الزمنية وانعكاساتها الارتدادية، ولا نستعين باساليب التعاون والتجانس بين النظم والبرامج والادارات المتكاملة منطقيا، ولا نؤمن بتشابك وتكافل التخصصات القريبة من بعضها، ولا ننفذ فعليا ما خططناه لاعمالنا من مرحلية وتكتيك واسترتيجية،
إننا نعلم يقينا أن نجاح تصنيع اية مركبة، هو حصيلة لنجاحات في مجالات عديدة، فنية واعلامية واقتصادية وادارية وقانونية وتربوية وثقافية، الخ.
إلا اننا في واقعنا لا ننتهج سلوكا مماثلا في تعاطينا مع توجهاتنا، والتي من ضمنها - بلاشك - توجهاتنا في المجال التربوي، ففي مجال صناعة الدعاة المتصدين للتوجيه الجماهيري، لا نعمل وفق مبادئ العمل المؤسساتي،
فنحن لا نفعل جانب الدعم والتكاتف والمتابعة، وغيرها، ولا نولي اهمية كافية لتهيئة التراكم المعرفي لدى المتصدي للتوجيه، ولا نوظف كما ينبغي المستجدات في التنمية البشرية وعلم الاجتماع والعلوم النفسية والاعلام باقسامه والقوانين والقرارات ذات الصلة ونظم الادارة الحديثة وبحوث العمليات والتقنيات المطورة ذات العلاقة ورصد الامكانيات المادية الكافية وتوظيف العلاقات والتربية والتربية الحديثة والعلوم الامنية الضرورية وادارة الازمات وغرف العمليات وخطط الطوارئ الموازية وغيرها،
نعم، نحن لا نستعين باسلوب العمل المؤسساتي المتخصص بتوظيف الجهود البشرية في عالم المعرفة،
نحن لسنا مقتنعين فعلا وحقيقة بأهمية وضرورة عالم المؤسساتية في دعمنا للشخص المرشح لتوجيه الساحة جماهيريا، إنها في الحقيقة غائبة عن واقعه، وتوثبنا وحماستنا للعمل التربوي التوجيهي للجماهير منفصلة تماما عن دأبنا لايجاد مؤسسات متخصصة تسند المرشح في مسؤوليته المناطة به بما  يحقق له النجاح ويضمن له إدامة النجاح،
إننا في الواقع نحيل تلك المسؤوليات الى المرشح نفسه، ونذره ليتبني جميع تلك الجوانب بجهده الشخصي وننتظر منه التصدي لها بإمكاناته وقدراته ومواهبه وسليقته الذاتية، مقتحما ومدافعا ومتفاديا للهجمات ولمفاصل الضعف والتآمر التي تحيط به، وبعد ذلك نتسائل مستغربين عن غياب القدوات الناجحة الصامدة القائدة.
ترى هل يحق لنا ذلك؟!،
إننا نقصد بغياب الدعم، عدم حضور المؤسسات وإداراتها ونظمها وخططها وفرقها المتخصصة الداعمة بمهنية وتمكن واحتراف،
ففي مجال الاعلام مثلا،
هل يعمل الاعلام باحترافية كافية، ويقدم دعما مستمرا لذلك المتصدي للتوجيه الجماهري، فيدعمه في الصحف والمجلات، وفي الاذاعة والتلفزيون، وفي القنوات المحلية والفضائيات، وفي المؤتمرات والاحتفاليات، وفي التجمعات الشعبية والنوادي الثقافية الخاصة، وعلى شبكة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وغيرها من مجالات الإعلام، بمهنية واحتراف،
إننا نقصد بالدعم الاحترافي ذلك الدعم المبني على التحليل والتنفيذ والمتابعة والتطوير وغيرها، وفق التوجهات الدقيقة والدراسات المعتمدة والبحوث المعمقة في تخصصات التربية والتوجيه، والمبنية تبعا لاحدث نظريات الاجتماع والتنمية البشرية،
ولتوضيح مقصدنا بالمهنية والاحترافية المطلوبة، نختار  مفصل التحليل نموذجا، ونتابعه مع احدى ابواب العمل الاعلامي، وليكن مواقع التواصل الاجتماعي، نجد ان من الوسائل المطلوبة لدعم الشخص المرشح لتوجيه الساحة هي احاطته بالنصائح والتعليمات، المستقات من نتائج الإجابة على نيف ومائتي سؤال دوري يطرح بصورة دقيقة على فريق متابعة يتولى احصاء وتتبع الردود والتفاعلات مع مواقع اجتماعية مرشحة لتواصل المربي معها،
تنتظم تلك الاسئلة في جدول ترددات وتتناول على سبيل المثال: طبيعة المتابعين، ومجتمعاتهم، وانتماءاتهم، واعمارهم، وجنسهم، وجنسياتهم، وثقافاتهم، وتوجهاتهم، واوقات الذروة عندهم، وموضوعاتهم المفضلة، ووسائل الطرح الفاعلة فيهم، واساليب الخطاب المؤثرة عليهم، والمناسبات المفضلة لديهم، وطرق التفاهم المناسبة لهم، وماهية التمهيدات اللازمة لهم، والتأثيرات التربوية المنعكسة عليهم، والجوانب النفسية التي تستفزهم، وعالمهم العاطفي، وانفعالهم بالترغيب والترهيب، والعادات والتقاليد السائدة عندهم، وطبيعة مجتمعهم، وتوقيت اللحظة المناسبة لهم، الخ.
 اسئلة كثيرة دقيقة ومنوعة تتناولها جدول الترددات المتشابك، وتحلل نتائجها وفق أسس احصائية حديثة ومعقدة، وتتناول ايضا المساندين والمنافسين والمناوئين، وخلفياتهم واساليبهم ومراميهم،
ثم تفرز محصلة من المعلومات وتقدمها بصيغة تعليمات جاهزة،
فعندما تخرج تلك التعليمات من مؤسسة دعم مهنية محترفة، وتدخل حيز التفعيل، مدعمة بخبرات فرق عمل تنمية بشرية وكوادر انتاج واخراج متخصصة،
وعندما تستكمل كافة الفرق المساندة والمتكاتفة اعمالها،
وعندما تستكمل بقية المفاصل اعمالها من ترويج ومتابعة وتطوير وغيرها،
وكذا بقية الجوانب الخاصة بكافة المجالات الأخرى المتشابكة مع الموضوع،
حين ذاك فقط يمكننا القول اننا بدانا نتلمس معالجة مسألة المؤسساتية في نظرتنا لدعم مرشح تربوي موجه للساحة،
قد يبدوا الامر معقدا للوهلة الأولى، لكنها ليست بتعقيد تصنيع مركبة ناجحة،
ان قناعاتنا بأهمية مخرجات الجهد البشري في عالم الادراك والمعرفة لا بد ان تتوج ببرامج  وآليات عمل وخطوات تنفيذ حقيقية، وان تتجاوز التأييد النظري المجرد، محققة ثباتا يضمن عدم التخلى عنها في منتصف الطريق او في ثنايا مراحله وحيثياته.
فالعمل الفردي والعمل الفوضوي والعمل الضعيف فكريا وتنفيذيا واقتصاديا، اثبت هزاله وعدم قدرته على الصمود أمام المنافسين من الآخرين، فضلا عن الفوز عليهم، سيما ونحن متخلفون عنهم، لعقود.




شارك الموضوع

إقرأ أيضًا