كاريزما الداعية



أبو عمرو أحمد غانم العُرَيضيّ
ahmedkaneem@yahoo.com

الكاريزما حسب المختصين بعلم التنمية البشرية هي قدرة الشخص على صنع حضور وتأثير إيجابي في الوسط الموجود فيه، وترك انطباع جيد، من خلال مظهره ولغة جسده، وابتسامته ولباقته، وكلماته اللفظية المناسبةأو هي الجاذبية الشخصية، والحضور الطاغي والشخصية الساحرة الآسرة. وهي أهم أبعاد الذكاء الاجتماعي حتى عدها بعضهم مرادفا للذكاء الاجتماعي، باعتبارها العنصر الرئيس في التحقيق الأفضل للتواصل الاجتماعي والقدرة على الإقناع والإلهام والتأثير الإيجابي.
والصفات التي تحقق هذه الشخصية تختلف من صنف إلى آخر، فكاريزما القائد غير كاريزما المدير، وكاريزما الفنان غير كاريزما الإعلامي، وكاريزما العالم غير كاريزما الداعية، وهكذا، والذي يحكم هنا هو نوع الحضور المطلوب تحقيقه، والرؤية التي يراد الوصول إليها، ونوع التأثير المستهدف، والمحيط الذي يعمل فيه.

والداعية إلى الإسلام له خصوصيته التي تميزه عن غيره من أصناف الناس، فله رسالة وهدف ورؤية خاصة، وهو شخص لا يبحث عن النجومية والشهرة، ولا يهتم للذكر والثناء على شخصه، وجمهوره هم الناس جميعهم، يخاطب كلا منهم بما يناسبه؛ خطابَ روح وجسد ولسان.

     فمن صفات الشخصية الدعوية أن الداعية ليس مجرد مبلغ ولا وسيلة نقل للمعلومات والمواعظ، بل هو شخص محترق على دعوته وقومه، لسان حاله كلسان الأنبياء عليهم السلام {إني أخاف عليك عذاب يوم عظيم}! فهو يخشى على الناس من الضلال كما يخشاه على نفسه، يكاد يتحطم من أي إعراض عن دعوته، حاله كحال النبي صلى الله عليه وسلم {لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين}!
وهذا هو الفرق بين الداعية الحقيقي والمبلغ الناقل، كما قال عمر بن ذر لأبيه: يا أبة! ما لك إذا تكلمت أبكيت الناس، وإذا تكلم غيرك لم يبكهم؟! فقال: يا بنيّ ! ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة!
إنها أعظم سمات الكاريزما الدعوية، فهو الداعية المحترق على دعوته وقومه، عند ذلك يكون لكلامه أثر، ولخطابه سحر، وقد سمع محمد بن واسع رحمه الله قاصا يقول: ما لي أرى القلوب لا تخشع، والعيون لا تدمع، والجلود لا تقشعرّ! فقال له ابن واسع: "ما أرى القوم إلا قد أُتوا من قِبَلِك!". ذلك أن الرجل إذا حدث القوم حديثا فإن حديثه يقع من قلوبهم موقعه من قلبه. كما قال شهر بن حوشب.

     وإن من أبرز سمات الكاريزما الدعوية كذلك هي الشخصية السباقة إلى فعل الخير، فليس ثمة تناقض بين قول الداعية وفعله، بل دائما ما يسبق الناس بخطوة أو أكثر، هذه السمة هي سمة الداعية القدوة، لأن الداعية داعية بفعله قبل أن يكون داعية بقوله، والناس يتأثرون بالقدوة أكثر مما يتأثرون بالخطيب المفوه، وقديما قالوا: من لم ينفعك لحظه لم يفدك لفظه. ومن لم ينعشك عبيره من على بعد فلا تتكلف شمَّه فلن تجد له طيبا!
وهكذا كان سمت السابقين قبلنا، وكذلك كانت شخصيتهم، وقد قال أحد أصحاب مالك: "ما تعلمت من أدب مالك افضلُ من علمه". وقالوا عن الحسن البصري: "كان الرجل إذا نظر إلى الحسن انتفع به وإن لم يرَ علمه ولم يسمع كلامه" حيث كانوا مثالا واقعيا لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (ألا أخبرك بخياركم؟ قالوا: بلى. قال: الذين إذا رؤوا ذكر الله).
هذه الكاريزما هي التي تصنع الحضور الطاغي، وتسحر الناس وتأسرهم،  فإن الناس جبلوا على الانقياد إلى من يسبقهم إلى الخير، وفطروا على البحث عن القدوة الصالحة، وصدق من قال: عمل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل.

     وثمة سمة أخرى هي من الأهمية بمكان لصناعة الحضور المؤثر في المحيط، وهي أن يتصف الداعية بطيب المعاشرة، والرفق بخلق الله تعالى، وأن يتحبب إليهم، ويقبل عليهم بكليته، فإن الناس تنشدّ لمن يوليها اهتمامه، وقد كان الحبيب عليه الصلاة والسلام يقبل بوجهه وحديثه على أشر القوم يتألفهم بذلك. كما قال عمرو بن العاص، قال عمرو: "فكان يقبل بوجهه وحديثه عليّ حتى ظننت أني خير القوم". وكذلك الداعية مع خلق الله تعالى لطيفُ المعشر، طيب الكلمة، خفيف الظلّ، رفيق التعامل، يشارك الناس أحزانهم فيحزن لحزنهم حتى لو كان حاله حال الفرح، ويفرح لفرحهم حتى لو كان حديث عهد بمصيبة، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس، ولما سئلت السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو قاعد؟ قالت: نعم، بعدما حَطَمَه الناس.
قال النووي رحمه الله تعالى: كأنه لما حمله من أمورهم وأثقالهم والاعتناء بمصالحهم صيّروه شيخا محطوما.

     ومن أبرز سمات الشخصية الدعوية سمة التواضع، فللتواضع -من غير مذلة- رونق خاص، شديد التأثير في قلوب الناس، لاسيما إن صدر من صاحب مقام عندهم، فيرفع ذلك عندهم منزلته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)، فليس في التواضع ضَعَةٌ، بل هو عز ورفعة، يورث هبية ورهبة في قلوب الناس، فعن قَيْلَة بنت مَخْرَمة أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاعد القُرْفُصاء، تقول: فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخشّع في الجِلسة أُرعدْتُ من الفَرَق!
وهل بعد هذه الرهبة من تأثير!


     صفات عديدة تلك التي تصنع شخصية الداعية الفريدة الإيجابية المؤثرة، فالداعية مطمئنّ النفس دائم التفاؤل، فإن تشاءم مرة سقط! وهو واثق بدعوته ورسالته ومستقبلها، فإن تشكك هنيهة هوى! وهو كذلك صاحب رؤية وليس عبثيا، فإن جرب العشوائية دار حول نفسه ولم يتقدموهو دائم الحرص على العلم والتعلم، يدعو الناس على بصيرة وعلم، فإن جهل زلّ. كما هو كثير القراءة والمطالعة، مواكب للعصر وثقافته، فإن تخلف عنه تاه. وهو متجدد مفاجئ، يأتي الناس من حيث لا يشعرون، فإن بقي رتيبا سئم منه الناس، فلم تَرُجْ بضاعته عليهم، وفشل في تسويق رسالته. ولتسويق بضاعة الدعوة والفكر قوانين، من لم يلتزمها لم يُلقِ له الناس بالا في سوق متخمة بالمعروضات وفنّاني التسويق!

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا