معيار الترجيح بين الكم والنوع في العمل الإسلامي



أبو عمرو أحمد غانم العُرَيْضي
باحث

 جدلية الكم والنوع لا تنتهي في الدين والحياة، نظريا وعمليا، ولا شك أن لكلٍّ منهما إيجابياته وسلبياته في كل جانب أو نشاط إسلامي وحياتي. ومن الثوابت أن أي زيادة في نصيب أحدهما هو نقص من نصيب الآخر، ولكل منهما كلفتُه من المادة والوقت والجهد البدني والذهني، ذلك أشبه بما يسمى في علم الاقتصاد بـ "تكلفة الفرصة البديلة" التي تعني تضحية الدولة أو المجتمع أو المؤسسة بسلع معينة لإنتاج سلع أخرى حيث يكون الجمع بينهما متعذرا،  لذلك ينبغي الحرص على دقة الاختيار والتمييز لتقليل الكلفة المبذولة ولتحسين العمل ونتائجه في أي عمل أو نشاط إنساني.
     وعندما نتكلم عن الكم والنوع في الإسلام فنحن نتكلم عن جدلية يرى البعض أنها أشبعت بالكلام وقُطع الأمر في شأنها منذ زمن لصالح ترجيح النوع والكيف على الكم والحجم، انطلاقا من نصوص شرعية ترجح تلك الكفة؛ كذمّ الله تعالى للكثرة التي لا تعقل، ومدحه للقلة المؤمنة، لكنهم يصطدمون بعد ذلك ببعض النصوص التي تخالف تعميم هذه النتيجة كقوله صلى الله عليه وسلم (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)؛ إذ كيف يباهي النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة العدد مع أنه ذكر في حديث آخر أن تلك الكثرة في الدنيا غثاء كغثاء السيل؟!
     فهل ترجيح النوع والكيف أمر مفروغ منه أم أنه لا زال بحاجة لمزيد من البحث والدراسة؟!
     أزعم أن المسألة بحاجة لمزيد من الدراسة، فكل عمل إسلاميا كان أو غيره فيه نسبة من النوع والكم، وكما يغلب جانب النوع في بعضها فإن للكم نصيبا من الغلبة في بعض جوانبها، وثمة أنشطة أخرى لا تستغني عنهما معا وبنسب ليست بالقليلة.
ولا بد من مقياس ومعيار لتمييز هذه الأنشطة والأعمال لتحقيق التوازن المطلوب للوصول إلى الأهداف والرؤى.
     ويمكننا أن نعتبر الرؤية والأهداف للعمل والمؤسسة هي المعيار لمعرفة حدود كلٍّ من النوع والكم؛ فقد تقرر في أبجديات التخطيط أن الرؤية والأهداف هي المحددة لمسار العمل ورسالته، ومن لا رؤية واضحة لديه فلا يستطيع أن يكتب رسالة جيدة، وإنما تبنى الخطط على الرؤية والأهداف.
     ففي العمل الدعوي مثلا يختلف الهدف باختلاف الشريحة المستهدفة، فدعوة غير المسلمين تختلف عن دعوة المسلمين. فالهدف من دعوة غير المسلمين هو إنقاذهم من الخلود في نار جهنم، وهذا يتحقق بمجرد دخولهم في الإسلام، لذا فإن جانب الكم هنا هو المستهدف، فيجب أن يكون الجهد منصبا على دخولهم للإسلام من غير تشويش عليهم في أي عمل آخر حتى لو كان واجبا شرعيا، وكثيرا ما تكون الغفلة عن هذا الأمر سببا في تنفير كثير من غير المسلمين بدل ترغيبهم. وقد رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يقبل اشتراط ثقيف لدخولهم للإسلام أن لا صدقة عليهم ولا جهاد كما في سنن أبي داود، وقبِلَ شرطَ آخرٍ أنْ لا يصلي إلا صلاتين كما في مسند أحمد.
ومن النظر إلى هذا الهدف نفهم مغزى افتخار النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة بكثرة أمته في الحديث السباق، وكذلك في حديث الصحيحين وهو يتحدث عن الأنبياء (وأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة)، وحديث مسلم (لم يُصدّق نبي من الأنبياء ما صُدقت) وغيرها من الأحاديث، وسبب تفاخره عليه الصلاة والسلام هو أنه بذلك سيكون أكثر نبيّ أنقذ الله به بشرا من الخلود في نار جهنم، كما قال -في حديث الصحيحين- (أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة). وبالنظر لهذا الأمر كذلك نفهم سبب عتاب الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم في تفضيله دعوة صناديد قريش على دعوة أعمى (ابن أم مكتوم)؛ ففي الدعوة إلى الإسلام لا تهتم لنوع وقيمة المدعوّ، {وما يدريك لعله يزّكى* أو يذّكّر فتنفعه الذكرى}.
     هذا في دعوة غير المسلمين، أما دعوة المسلمين فإن الغاية منها هي الإصلاح، لذا يكون التركيز فيها على النوع والكيف، والارتقاء بالمجتمع والجماعة والفرد لمستوى أعلى في الالتزام والعلم والفكر والعبادة.
     وكذلك إذا اخذنا جانب العمل السياسي فنستطيع معرفة حدود الكم والنوع بمقياس الرؤية والأهداف؛ ففي العمل الحزبي يكون الهدف هو الوصول لمراكز صنع القرار السياسي عبر الحصول على أكبر تمثيل ممكن في مؤسسات الدولة، وهذا الثاني يحتاج لقاعدة شعبية عريضة يستفيد الحزب من تأييدها وأصواتها (الكم)، غير أن حجم التمثيل المستهدف في مرافق السياسة لا يكفي لتحقيق النجاح في صناعة السياسة الناجحة إلا عبر برنامج سياسي ناضج (نوع) وبصناعة السياسي القادر على تحويل البرنامج إلى واقع، وصناعة السياسي من النوع كذلك.
لذلك ينبغي على الحزب السياسي أن يسعى للأمرين جميعا؛ والوصول إلى أكبر عدد ممكن من المؤيدين للحزب ومنهجه ليس بالضرورة أن يكونوا منتمين للحزب بل لا ينبغي، حتى يكون المنتمون للحزب هم النخبة الكفوءة التي يصنع منها الحزب السياسي القادر على صنع السياسة الناجحة.
     وهنا يلفت نظرنا نظام الحزب الشيوعي الصيني في طبيعة شروط العضوية فيه؛ فهي ليست متاحة للجميع، بل يجري التنافس عليها؛ وواحد فقط من بين خريجي كل تخصص دراسي في كل جامعة يحظى بالعضوية في السنة، وبهذا فلن يتسرب إلى الحزب عديمو الكفاءة ومحدودو القدرات، بحجة الولاء للحزب، فتبنى العلاقة على النفاق ويعم الفساد فينتهي العمل. ولم يقلل هذا من عدد أعضاء الحزب الذي يبلغ نحو 70 مليون فرد عبر تراكم السنين الماضية.
لا نريد استنساخ التجارب بل الاستفادة من الفكرة.
أما عامة الناس فيكفي أن يكونوا مؤيدين للحزب، وهم الكم الذي يستهدفه الحزب.
     ولو أخذنا مثالا أخر في تكوين الجيوش؛ لرأينا أن الوصول إلى القوة الكافية لدفع العدوان والدفاع عن الضرورات الخمس هي الغاية، ومصادر هذه القوة متنوعة كذلك بين الكم والكيف؛ وتعتمد معايير تقييم قوة الجيوش عالميا على كلا الأمرين معا؛ فعدد الجنود وحجم الميزانية التي ترصد للجيش عناصر أساسية في تقييم قوة الجيوش، كما أن مستوى التقدم في نوعية السلاح بجميع أنواعه وجودة التدريب والتنظيم للجنود والرتب على تنوعها معايير أخرى أساسية كذلك، والخلل في جانب يحول الجيش إلى خردة لا تقاوم الرياح العاتية.
والقوة المطلوبة في قوله سبحانه {وأعدوا لهم ما استطعتم ن قوة} شاملة لكل أنواع القوة كمًّا ونوعا وكيفا، وأي خلل في جانب من هذه الجوانب هو ضعف يؤثر سلبا على مكانة الجيش وتأثيره.

     وبالإمكان قياس حدود الكم والنوع في جميع الأنشطة والأعمال والمؤسسات بما يمكن أن نسميه بـ"قانون السطح والعمق"، فكلما اتجهنا إلى السطح كلما كانت الغلبة للكم والحجم، وكلما تغولنا في العمق كلما تركز العمل على جانب النوع والكيف؛ فدعوة غير المسلمين يستهدف فيها الكم، فإذا تعمقنا بعد ذلك كان التركيز على النوع يزداد حتى يصل إلى ذروة تركيزه مع التربية الفردية وتغليب جانب الخشوع والخضوع وتحقيق المعاني التعبدية على كثرة التعبدات الظاهرية؛ والأمثلة الشرعية في هذا لا تخفي. فأفضل الصلاة (طول القنوت) وليس عدد الركعات.
     وكذلك الأمر إذا توجهنا إلى سطح العمل الحزبي السياسي فالتركيز فيه على أكبر عدد من المؤدين كمًّا وحجما، ليتجه التركيز على النوع كلما تعمقنا أكثر مبتعدين عن عامة الناس إلى أعضاء الحزب فقياداته الوسطى فالعليا ليصل ذروته عند الرئيس. ونفس الأمر ينطبق على أي نشاط أو مؤسسة أخرى، صغرت أم كبرت.

     أرجو أن أكون قد حللت بعض الإشكاليات في فوضى الكم والنوع لتحقيق التوازن بينهما؛ باعتبار أن تحصيل ذروة الكم بأجود الأنواع أمر يتعذر تحقيقه؛ فأمنية سيدنا عمر بأن يكون له ملء الدار رجالا كأبي عبيدة ومعاذ وسالم –رضي الله عنهم- فيستعملهم في سبيل الله تعالى –بقيت مجرد أمنية!

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا