د عمار وجيه
سياسي وباحث
جذور الإسلام باقية
المكر الغربي المتواصل في مدى قرن أو أكثر أعيته الحيلة أن يغير الهوية الإسلامية لشعوبنا التي أثبتت قدرتها على النهضة والتجدد. وفي العراق ذي القوميات والطوائف، ومع إطلالة عقد الثمانينات من القرن الماضي وانطلاق الحرب، أُذن للصحوة الإسلامية أن تولد من جديد. وبعد أن كان ابن بغداد المتأثر بالعلمانية يخجل أن يحيي زملاءه في العمل إلا ب(صباح الخير)، بدأ الناس شيئاً فشيئاً ونتيجة لآثار الحرب التي تلجئهم إلى الله، يراجعون أفكارهم ويعودون إلى الصلاة بل ويحيون بتحية الإسلام التي أضحت في التسعينات تحيةً مألوفة حتى لدى المتبرجات من النساء.
في النصف الأول من القرن العشرين وبالرغم من حملات التشويه المحمومة، لم تنسلخ الشعوب من دينها تماماً، بل حافظت على جذوره الممتدة في الأعماق والتي كان لها سيقان نحيلة غذت المساجد والمآذن والمنابر والمحاكم الشرعية الممتدة منذ أيام أبي حنيفة النعمان.
بل إن التظاهرات التي كانت تخرج لنصرة القضية الفلسطينية لم تكن سوى من بقايا الخير الذي غرسه الإسلام. ذلك الخير الذي قبر الشيوعية في مهدها، ولم يمهل مظاهر المجاهرة بالكبائر كثيراً حتى تلاشت تلقائياً بعد حرب إيران نتيجة للموت بالجملة الذي أعاد بعض العراقيين كما أسلفنا إلى التفكير بالآخرة من جديد.
في الأربعينات وما بعدها نشطت ظاهرة محاربة البدع بجهود سلفية وإخوانية وأخرى علمية مستقلة، وبدا الأثر بعد عقود واضحاً حين نشأ جيل من الشباب مثقف إسلامياً يعتزّ بأن يردد: (قال الله وقال رسوله)، وينبذ السحر والشعوذة والدعارة المنسوبة زوراً إلى التصوف تحت عناوين شتى.
وحين نراجع محاولات منظري البعث أمثال ميشيل عفلق في ركوب موجة التدين بمناورة سمجة اختزلت الإسلام عن عمد بالمفهوم الثوري المنتفض على الأوضاع الفاسدة، وليس الخلق المنبثق من الإيمان بالخالق وتوحيده، نجد أنه أخفق وفشل فشلاً ذريعاً.
حيث جاء في مقال عفلق (نظرتنا إلى الدين): (ان الإسلام عند ظهوره هو حركة ثورية، ثائرة على أشياء كانت موجودة: معتقدات وتقاليد.. ومصالح.. وبالتالي هل يفكرون بأنه لا يَفهم الإسلام حق الفهم الا الثوريون؟. وهذا شيء طبيعي لان حالة الثورة هي حالة واحدة لا تتجزأ، وهي حالة خالدة لا تتبدل، فالثورة قبل ألف سنة وقبل ألفي سنة وقبل خمسة آلاف سنة، والآن وبعد ألوف السنين: الثورة واحدة، لها نفس الشروط النفسية، ولها نفس الشروط الموضوعية أيضا إلى حد كبير).
الطريف أنه لم يكن لفكره رصيد حتى في سلوك البعثيين أنفسهم، ولا أوجد أرضية في المجتمع ولا الجيل الناشيء. بل إن الصحوة الإسلامية التي ولدت في العراق فيما بعد اعتمدت بالكلية على الفكر الإسلامي البعيد كل البعد عن فكر البعث العفلقي.
جذور الفكر والممارسة السياسية
حتى بداية الخمسينات من القرن العشرين، لا يمكن القول بوجود حزب سياسي إسلامي، ربما نتيجة للمد القومي المزهو والذي طغا على حساب التوجه الإسلامي إذ كان في وضع دفاعي بعد سقوط الدولة العثمانية.
دعوة الإخوان ولدت في مصر عام ١٩٢٨ لكنها لم تؤسس لها فرعاً في العراق بشكل رسمي إلا في عام ١٩٥١ على يد الشيخ الصواف رحمه الله، وكانت قبل ذلك بأعوام مقتصرة على مجموعة من تلاميذ الدكتور المصري حسين كمال الدين الذي درّس الهندسة في العراق.
قبل ذلك الوقت، وكما أسلفنا، كادت الممارسات السياسية تقتصر على المواقف المناهضة للإنكليز والكيان الصهيوني، وفي الغالب كان يقودها العلماء ويعبرون عنها بتظاهرات وبيانات وحضور مؤتمرات خارج العراق. ولعل خير شاهد على تلك الفترة مواقف العلامة أمجد الزهاوي المؤسس لرابطة العالم الإسلامي في مكة ورئيس مؤتمر العالم الإسلامي، حيث كان كثير الاهتمام بقضايا المسلمين وسافر إلى مختلف أقطار الدول الإسلامية مثيرا للهمم وشارحاً للمصيبة وجامعا للتبرعات ومحذرا من العاقبة الوخيمة المترتبة على تقصير الحكومات والمسؤولين في البلاد العربية والإسلامية بقضية فلسطين.
في نهاية الخمسينات وبداية الستينات بان أثر حركة الإخوان المسلمون إذ أسست الحزب الإسلامي العراقي أيام حكم عبدالكريم قاسم، واشتغل الحزب لعام واحد ثم تم تجميده من قبل الحركة، ليعود العمل السياسي بعد ذلك إلى نفس النمط السابق مع فارق الاستجابة للتوترات التي نشأت بعد التحول الملكي إلى الجمهوري. ولا شك فقد رافق ذلك توقف في النشاط الحزبي الإعلامي والعلاقاتي وجمود في الفكر السياسي بسبب غياب الممارسة الفعلية.
حزب التحرير أسسه القاضي المقدسي تقي الدين النبهاني رحمه الله في ١٩٥٣ ثم تأسس له فرع في العراق في بداية الستينات. لكن ذلك الحزب اقتصر على نشر مجموعة من الأفكار المتعلقة بإعادة الخلافة الإسلامية، وأغلبها لم تكن مستقاة من إجماع أو اتفاق فقهاء العصر. بالعموم لم يكن حزب التحرير مهتماً بالعمل التربوي ولا التعبوي بقدر اهتمامه بالتنظير والتعبير عن مواقفه ببيانات وتصريحات، لذا فإن رصيده في العراق اليوم يكاد يقترب من العدم. ولا ننسى أنه اتخذ موقف المقاطعة لكل ما هو موجود في الساحة السياسية، سيما أنه لا يجيز العمل السياسي تحت مظلة النظام الديمقراطي.
يمكن القول أن العمل السياسي الإسلامي المعارض مر في مرحلة سبات مذ سيطر حزب البعث في ١٩٦٨ والذي حكم بالحديد والنار وحظر الأحزاب جميعاً وتآمر على حلفائه الشيوعيين وأعدم معظم معارضيه. فلم يتبقّ للإسلاميين سوى المواقف المنبرية والخطب والمحاضرات وأحاديث المجالس والكتيبات هنا وهناك، وكانت معظمها تعارض النظام ومغامراته بلغة خجولة، لأن من كان يتصدى له في الغالب لا ينجو، وما الشهيد الشيخ عبدالعزيز البدري عنا ببعيد. إذ اعتقل وعذّب حتى فاضت روحه الطاهرة على خلفية خطبه النارية التي كان ينال فيها من عفلق وحزبه.
هذه المدة الطويلة تخللتها حملات اعتقال لأبناء الحركة الإسلامية، منها ما حصل للإخوة في شهربان في ١٩٨١ وأعدم قيادي من قيادييهم، ثم بعد ذلك بقليل اعتقل خمسة شباب مثقفين أغلبهم من منطقة الأعظمية بسبب جمعهم التبرعات للمجاهدين الأفغان فأعدموا جميعاً، ثم جرت أوسع حملة في ١٩٨٧ لعدد تجاوز التسعين من أبناء الحركة، ثم حملة أوسع في ١٩٩٤ لكنها كانت أشد وطأة، ثم اعتقال قادة الإخوان في ١٩٩٦ ومنهم فضيلة الدكتور محسن عبدالحميد. ولم ينجُ السلفيون من الاعتقال في أكثر من مرة ولكن بأعداد أقل.
وفي الحقيقة أن تلك الاعتقالات والإعدامات هي التي أضفت على التكتلات الإسلامية القائمة يومئذٍ طابعاً سياسياً في الوقت الذي كان النشاط التربوي والدعوي لها أبرز من النشاط السياسي.
وفي الحقيقة فإن العمل السياسي السني تراجع في السبعينات وما بعدها بعد أن أمر الدكتور عبدالكريم زيدان في ١٩٧١ بحلّ تنظيم الإخوان تجنباً لدخول صراع دموي مع النظام البعثي القمعي، وأيضاً نتيجة لاعتقال القيادات الشبابية في ١٩٨٧ والذين كان يتوقع منهم أن يطوروا التنظيم والعمل السياسي. يضاف إلى ذلك عدم وجود دولة تدعم المعارضة الإسلامية السنية كما هو الحال في إيران التي دعمت الأحزاب الشيعية.
مرحلة القمع ١٩٦٨-٢٠٠٣ خلت بالكامل من التعددية السياسية ولم يكن فيها انتخابات حزبية ولا نقابية ولا مسيرات ولا تظاهرات ولا جرائد ولا مجلات معارضة فضلاً عن وجود بيئة مغلقة بشكل شبه تام نتيجة محدودية السفر بسبب الحرب ثم الحصار وعدم توفر الفضائيات ولا الانترنيت، كلها عوامل أدت إلى ظهور أساليب جديدة في التوعية أشبه بمبدأ (لا تلعن الظلام بل أوقد شمعة). فكان الاهتمام بالتربية والبناء العقدي والروحي والشرعي بديلاً عن الممارسة السياسية وخاصة في سنوات الحصار الأثنتي عشرة.
الخصوصية الشيعية
الواقع الشيعي مختلف تماماً، وبالرغم من أن الوعي السياسي السني كان أسبق منه بعقد أو عقدين إلا إن الإسلاميين السنة في الثمانينات تراجعوا سياسياً مقارنة بالشيعة كما أسلفنا.
حزب الدعوة الإسلامية الذي يعدّ نفسه من أوائل الأحزاب الشيعية الإسلامية، لم يظهر له نشاط فعلي إلا في أواخر السبعينات، وكان نشاطاً تعبوياً مشوباً بعمل مسلح، ومن الطبيعي أن يجابه بالقوة من قبل النظام، فأعدم العشرات واعتقل وهجر المئات منهم، ولا ننسى أن لإيران دوراً سلبياً إذ استدرجتهم إلى تلك المقتلة لمصلحتها القومية وليس حباً فيهم.
ترنح حزب الدعوة في فكره كثيراً، فبينما كان يتوقع أنه سيؤسس لفكر إسلامي شيعي معتدل بعد أن تأثر بفكر الإخوان، سرعان ما تغير المزاج وانقلب باتجاه التطرف نتيجة لأسباب ثلاثة رئيسية: أولها رفض المرجعية الشيعية تذويب المذهب القائم على العصمة والإمامية وقراءة التاريخ بشكل مغاير بالكامل عما يراه أهل السنة والجماعة، وظهور ثورة الخميني التي شجعتهم على الاصطفاف معها، والعنف الذي جوبه به حزب الدعوة من قبل صدام بالذات. كلها عوامل أسهمت في تحويل مسار حزب الدعوة من أن يكون معارضاً للشيوعية والعلمانية في بدايته إلى أن يكون مناكفاً للسنة عموماً والحكومة التي حسبت عليهم زوراً.
وبالرغم من الأذى الذي لحقه، فقد كانت فرصة له لمراجعة البرامج والخطط، وتمكن من ركوب الموجة بعد الاحتلال ليقفز قفزة هائلة في النفوذ السلطوي والمادي مستفيداً من تاريخه النضالي.
وللأسف فقد كان من المفترض التأسيس لمشتركات إسلامية بين الفئتين تركز الجهود على البناء الثقافي المعتدل وردم الفجوات، إلا إنها سرعان ما تفككت بعد اندلاع الحروب ذات الخلفية الطائفية، وتحولت جميع الأحزاب الشيعية إلى أحزاب طائفية ليمسي صديق الأمس العدو رقم واحد اليوم لأنهم يعدّونه اليوم المنافس الحقيقي باعتبار أنه يدافع عن الثوابت الإسلامية بوعي ودراية، وأعني بذلك الحركة الإسلامية (السنية) والمؤسسات السياسية المؤيدة والصديقة.
ولولا احتفاظ الحركة الإسلامية السنية وبالذات الإخوانية بثوابتها العقدية والفكرية الوسطية لانزلقت فيما انزلق به المتشددون من الطرفين من تكفير واستباحة للدماء، لكن الله سلّم، وظهرت الصورة واضحة بين من أصرّ على الاحتفاظ بالقيم والثوابت حتى لو كانت على حساب المكاسب وبين من حاكى في سلوكه السياسي ممارسات الشيوعيين والأنظمة المستبدة حتى لم يبقِ من مسمى الإسلام إلا العنوان فقط.
أما المجلس الأعلى وهو الائتلاف الذي ولد في إيران عام ١٩٨٢ فلم يكن بحاجة إلى تغيير أدبياته فهو شيعي الولادة والعقيدة بكل وضوح.
في حين أن التيار الصدري لا يمكن اعتباره حزباً سياسياً بهذا المعنى بل تيار شيعي عراقي يدعي أنه يمثل الطبقة المحرومة، وانتقل إلى عالم السلطة والمغانم دون المرور بمرحلة الفكر السياسي، فكان مثالاً على جمع كل المتناقضات الفكرية والسلوكية في طبق واحد.
واقع كردستان
الوضع في كردستان أكثر تعقيداً، فبعد أن كانت الحركة الإسلامية الكردية جزءً من الحركة العراقية التي تقاد من بغداد، حتمت ظروف الانفصال في ١٩٩١ تأسيس حركة إسلامية كردية تبلورت فيما بعد إلى حزبين رئيسيين وثالث ثانوي وهم كل من الاتحاد الإسلامي الكردستاني والجماعة الإسلامية والحركة الإسلامية.
الكرد كانوا يتململون من الأوضاع الأمنية السيئة والتي تفاقمت في أواخر الثمانينات حتى انتهت بعمليات ما يسمى بالأنفال وقصف حلبجة بالكيمياوي، فلم تجد الحركة الإسلامية بداً من الانكفاء على قضيتها القومية باعتبار أنه لا نجاح لعمل سياسي من دون ملاذ آمن وحكومة تمثل شعبها الكردي، ولا سيما أن جميع الأحزاب الكردية تدعم قيام الدولة الكردية.
بقيت الأحزاب الإسلامية الكردية تحمل فكراً متأثراً بالإخوان والسلفيين المعتدلين، مع وجود نزعة صوفية واضحة لدى الشعب الكردي تتمثل بتوقير الزعماء سيما ذوي الخلفية الدينية والعشائرية.
التمايز المجتمعي
في عام ١٩٩١ تحديداً، وبعد أن اتضحت مسارات الشيعة والكرد وهي ضرورة إسقاط النظام، لم يكن ثمة حركة سياسية سنية تمتلك تنظيماً سوى حركة الإخوان المسلمون والحزب الإسلامي العراقي الذي كان امتداداً سياسياً لها وأعاد تشكيله في لندن.
للأسف، يمكن القول أن بوصلة الحزب في الخارج لم تتمكن من التطابق مع بوصلة الحركة في الداخل، ويعود ذلك لأسباب أهمها ضعف التواصل بسبب الضغط الأمني وبدائية وسائل الاتصال، فلا يوجد سوى الهواتف أو الرسائل البريدية وكلتاهما وسائل مخترقة، واختلاف الساحات، فساحة المعارضة في الخارج سياسية بامتياز وتعمل بحرية، بينما ساحة الداخل تربوية وتعمل بحذر شديد.
مضت سنوات الحصار، ولا شك أنها كانت كفيلة بتعميق الهوة السياسية بين الداخل والخارج. فالخارج كما ذكرنا يتفهم العمل السياسي بحسب ما يرى ويباشر مع بقية الأحزاب المعارضة ولكن بوتيرة بطيئة جداً. والداخل يمارس العمل التربوي والتعبوي بوتيرة أسرع من دون أن يرافق ذلك برامج توعوية فكرية أو سياسية فيما عدا بعض المحاضرات النخبوية التي كان يقوم بها فضيلة الدكتور محسن عبدالحميد والدكتور عماد الدين خليل وكتب الأستاذ الراشد والتي كانت ذات طابع فكري وفلسفي وتعبوي ليس له اتصال مباشر بإعداد الأجيال لمباشرة العمل السياسي المفترض الشروع به بعد زوال النظام.
بعد الاحتلال
في نيسان ٢٠٠٣ أي بعد الاحتلال مباشرة، كان أغلب الرصيد الذي اعتمدت عليه قيادات الحركة الإسلامية والحزب الإسلامي وبعض السلفيين الذين التحقوا بالسياسة عند تشكيل جبهة التوافق في تشرين٢٠٠٥ ، هو ما تلقته تلك النخب من العلوم الشرعية والكتب الدعوية والتربوية. وهو رصيد تأصيلي جيد، لكنه لا يؤهل القيادات الحزبية ولا الرموز البرلمانية والحكومية لفهم طبيعة العمل السياسي المعاصر. ولم يكن ثمة فرصة لتأهيل تلك القيادات إلا من خلال المعهدين الأمريكيين الجمهوري IRI والديمقراطي NDI ، وربما دورات خجولة أخرى من دول قريبة أو مجاورة.
ومع تطور الأحداث وتعقيدها كانت النخب السياسية بحاجة إلى إجابات شرعية وفكرية وسياسية لتساؤلات كثيرة، منها طريقة التحرر من الاحتلالين العسكري والسياسي، المسؤولية الإسلامية في ظل وجود أحزاب شيعية وكردية متصارعة على السلطة وسائر المكاسب، التعامل مع الطائفية والعنف والعنف المضاد، التعامل مع الديمقراطية الغربية المستوردة، نظام الحكم في ظل وجود التأثير الخارجي،...الخ من عشرات العناوين المهمة. وأزعم أن الحوارات التي جرت داخل ساحات الحركة الإسلامية والحزب الإسلامي كانت الأكثر والأعمق مقارنة بالساحات الأخرى إن وجدت. وفي الحقيقة لم أجد أكثر نضجاً من آراء الدكتور محسن عبدالحميد الذي كان يتبنى الفقه المقاصدي ويفكر دوماً بالمآلات. وهو الذي كان يقول: (لو كان الشيعة والكرد معنا يداًواحدة لما ترددت في مقاومة المحتل، لكني أخشى أن نضحي بالسنة ليستفيد غيرهم من العراقيين كما حصل في ثورتي ليبيا والجزائر) وقد حصل.
ولا ننسى أن نذكر بأن فصائل المقاومة بالرغم من تشكيلها للمجلس السياسي وعائدية فصائل أخرى لهيئة علماء المسلمين، فإنها لم تكن تهتم كثيراً بالفكر السياسي مقارنة بالتعبئة الروحية والعسكرية، باعتبار أنه ملف مؤجل بحسب آراء كثير منهم. في حين أنه كان بإمكان بعضهم التفرغ للتأليف والنشر والتسويق عبر الفضائيات سيما أن أغلب قادتهم في دول الجوار وفي وضع أكثر أمناً وأقل انشغالاً من السياسيين في الداخل.
التركمان
أخرت الحديث عن التركمان باعتبار أن ملفهم الإسلامي السياسي برز بعد الاحتلال. إسلاموية التركمان ضاعت بين التحديات القومية والطائفية والاعتزاز بالانتماء في ظل العصر الذهبي لتركيا تلك الدولة التي لم تصطف معهم كما كانوا يحلمون.
كان تركمان كركوك يخشون الذوبان في كردستان كما ذاب تركمان أربيل، فتجمعوا لتشكيل جبهة متوقعين مدداً تركياً لغالبية تركمانية سنية. لكن جرت الأقدار أن تكون إيران أكثر التزاماً لحلفائها الشيعة بالتمويل والتسليح، حتى أضحى حزب العدالة التركماني الذي من المفترض أن يمثل التوجه الإسلامي الوسطي حزباً ضعيفاً مقارنة بغيره.
ومما يؤسف له أن التوجه الإسلامي الشيعي لدى التركمان اقترن بشكل أو آخر بالحالة الطائفية الموالية لإيران بالرغم من عدم وجود تحديات بينهموبين التركمان السنة، بل أوجدت لهم إيران عدواً آخر وهو القاعدة ثم داعش لتوجد مبرراً لتسليحهم وهيمنتهم العسكرية على جنوب كركوك.
وعلى ذلك فلا بد أن تنهض كركوك من جديد بواجهات مجتمعية إسلامية تعيد التوازن لتلك المحافظة العريقة المعروفة بثقافتها العالية وتدينها الحميد.
رجال النظام السابق
شهدت التسعينات تقارباً بين الإسلاميين وبين بعض رجال الدولة المتدينين ممن أرهقتهم الحروب والمغامرات وتولدت لديهم قناعة بالعودة الجادة إلى الدين، ولأن الدولة أرخت قبضتها بعد التسعينات، فقد كانت المساجد ميداناً رحباً للتقارب والتسامح.
مضت سنوات الحصار من دون أن يصل التفاهم ذروته باعتبار أن سقف الحوار المسموح به في المساجد وقتئذ هو ما يتعلق بالدين والشريعة.
الذي حصل بعد الاحتلال أن هؤلاء المؤلفة قلوبهم فوجئوا بدخول بعض الإسلاميين إلى العملية السياسية ظناً من بعضهم أنه انسياق وراء أجندة الاحتلال، كما أشاع البعثيون، وليست تحملاً للمسؤولية لإنقاذ أهل السنة من تهميش واقع لا محالة.
وفي نفس الوقت وقع خطأ من أبناء الحركة الإسلامية إذ لم يولوا رجال الدولة أولئك العناية الكافية في التوعية ربما بسبب الانشغال بهموم معالجة آثار الاحتلال وانفتاح جبهات وخطوط عمل لا حصر لها.
انقسم رجال الدولة السابقة إلى أقسام، منهم من التحق بالعملية السياسية ضمن صفوف الحزب الإسلامي أو التوافق أو العراقية، أو التحق بمنظمات مجتمع مدني، ومنهم من التحق بصفوف المقاومة المعتدلة أو المتشددة، ومنهم من شمله الاجتثاث.
ودارت الأيام بين شد وجذب، حتى أصبح الكل أكثر توازناً في النظرة إلى بعض، ولكن للأسف بعد أن دفعنا ثمناً باهضاً من التضحيات لم يستثنِ أحداً، وآخرها احتلال داعش لمحافظاتنا، وما تزال السجون تغصّ بالألاف من كرام الناس.
وماذا بعد؟
كم كان الكثير يتمنى أن يكون العمل السياسي إسلامياً بحق في بلد نسبة المسلمين فيه أكثر من ٩٨٪ . لكن الجهل المركب والاستبداد الطويل وأطماع الدول مزقت العراقيين وأوجدت حالة معقدة ومتراجعة من الطائفية والعرقية هبطت بمستوى التفكير من المعرفة إلى الجهالة، ومن الاعتدال إلى التطرف، وخسر الجميع بلا استثناء.
التغيير، وكي لا يكون حالماً، ينبغي أن يبدأ من بيضة القبان، العرب السنة، الذين يشتركون مع الكرد والتركمان بالسنية، ومع الشيعة بالعروبة، ولا يعانون من مشكل داخلي خصوصاً بعد أن فطموا من عقدة الزعيم الأوحد وأيقنوا أن الحل بعد صدام ليس بظهور زعيم جديد، سيما أنهم شهدوا فشل علاوي والمطلك، وتهميش الهاشمي والعيساوي وغيرهما. فلم يعد ثمة حل سوى الاصطفاف حول راية الإسلام النقية المعتدلة مبتدئين بسنة العراق ثم يلتحق بهم من يرغب بالعودة إلى الصف المسلم الضامن لوحدة العراق ما دام الكل يدعي ذلك. وهذا الخيار قد يبدأ بإقليم مهما كان متواضعاً ثم تعمم التجربة بعد النجاح بإذن الله.