أبو بكر محمد الكاتب
باحث
التعددية الاثنية مظهر حيوي من مظاهر العالم المعاصر اذ يصعب الحديث عن دولة تخلو منها وقد برز هذا النمط من الدول مع انتهاء الحرب العالمية الاولى وذلك على اثر انهيار الامبراطورية العثمانية والامبراطورية المجرية وتقاسم وتوزيع املاك هاتين الامبراطوريتين بين الدول المنتصرة في الحرب مما ادى الى ظهور دول عديدة اسفر عنها وجود اقليات متعددة في كل منها.
ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية دخل النظام السياسي الدولي مرحلة جديدة وهي انخراط معظم شعوب العالم الثالث لاسيما بلدان اسيا وافريقيا في اطار دول خاصة بها بعد ان كانت مستعمرات تابعة للقوى الاوربية او كيانات تعيش في اطار تنظيمات قبلية او طائفية او اقليمية بعيدة عن طابع الدول المعاصرة. وعلى اثر قيام هذا التعدد الهائل من الدول فان الحدود المعلنة والمعترف بها دوليا لم تتطابق في اكثر الاحيان مع حدود الجماعات الاثنية بمعنى ان الدولة الواحدة قد تضم عدة جماعات اثنية او اقليات قومية ودينية ولغوية ووافدة.
ويمكن للتنوع الاثني ان يكون عاملا ايجابيا ومصدر للاثراء الثقافي والتقدم الحضاري والاستقرار السياسي كما هو الحال في بعض الدول المتقدمة ومن جانب اخر فان وجود جماعات اثنية عديدة داخل الدولة الواحدة يثير اغلب الاحيان نزاعات بين هذه الانتماءات المتعددة التي تسعى كل منها للسيطرة على السلطة السياسية او على نصيب اكبر من الثروة والقوة لذلك فان علاقة الجماعات الاثنية المختلفة داخل الدولة الواحدة لابد ان تنتظم في اطار نظام ديمقراطي يراعي هذه التعددية ويقر بالحقوق والحريات المختلفة للجميع على قدم المساواة ما يبعد الصراع المسلح كصيغة للتعامل بين هذه الجماعات.
لقد انتهجت الانظمة السياسية في دول العالم وخاصة في دول العالم الثالث والدول النامية سياسات معينة في ادارتها تمثلت في ابعاد الاثنيات من السلطة وقد شمل هذا الابعاد غالبية الجماعات والاقليات بالاضافة الى تهميش مناطقهم اقتصاديا،وهذا ما خلق صراعات طويلة وتوترات مستديمة الامد بينها وبين هذه الانظمة خلفت حروبـا طويلــة وبالتاكيد فان هذه الصراعات اتاحت لبعض الاطراف والقوى الدولية والاقليمية التدخل من اجل مصالحها واستخدام بعض هذه الاقليات كورقة ضغط على الحكومات وزعزعة الامن الداخلي .
ان ظاهرة التدخل الدولي ليست جديدة في العلاقات الدولية لكنها اصبحت واضحة بشكل رئيسي في عالم ما بعد الحرب الباردة وبرزت له اشكال منها التدخل لأحلال الامن والسلم الدولي والتدخل للدفاع عن حقوق الانسان وحماية الاقليات والتدخل لاغاثة الاهالي من الكوارث والحروب الاهلية والتدخل لمنع الابادة الجماعية،وهذا توصيف لظاهرة لاشك انها ترتب اثار سياسية وقانونية وبالذات على مبدأ السيادة ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول .
ويرتكز مبدأ السيادة ومبدأ عدم التدخل بوضوح على الفقرتين الرابعة والسابعة من المادة الثانية لميثاق الامم المتحدة والتي تؤكد على ان التدخل بالقوة المسلحة في الشؤون الداخلية يبقى متعارضا مع القانون الدولي واسس الشرعية الدولية رغم ما يرافقها من تبريرات الامر الذي يتطلب وجود ضوابط سياسية وقانونية تمنع تحقيق مصالح خاصة حيث لا يزال مبدأ سيادة الدولة حجر الزاوية في العلاقات الدولية.
ان اهمية تناول هذا الموضوع تكمن في ان النزاعات الاثنية لها تأثير على الصعيد الدولي بشكل عام وان عالم اليوم يشهد الكثير من الصراعات الاثنية مثلما يشهد حروبا اهلية وحملات ابادة جماعية وعمليات للتهجير القسري وانه محاولة لكشف الغطاء والقاء الضوء على موضوع بدى يتجلى في ظل النظام الدولي الجديد الا وهو موضوع استغلال التعددية الاثنية في دول العالم. وان التنوع القومي والتدخل الدولي ومبررات هذا التدخل واثارة اشكالية السيادة والمفهوم الجديد للسيادة بعد نهاية الحرب الباردة نقل العديد من الاختصاصات الداخلية للدولة الى السلطات الدولية في العديد من الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتكمن اهمية الموضوع في توضيح مدى التزام الدول بمواثيق الامم المتحدة بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لاي دولة و احترام مفهوم السيادة على ارض الواقع كما تحاول بيان الذرائع والتبريرات القانونية التي تقدمها الدول الكبرى لاعطـــاء شرعية للتدخلات الخارجية في دول العالم تحت حجة حماية الاقليات وحقوق الافراد وحقوق الانسان كما ويجب القاء الضوء على المتغيرات الدولية والاقليمية ودور القوى الدولية في خلق وصناعة النزاعات الاثنية واثر صراعات القوى على بلدان متعددة القوميات والاثنيات في تاجيج الحروب الداخلية ودفع تلك الدول الى المزيد من التجزئة والتفتيت.
سنطرح في المقالات القادمة إن شاء الله اشكالية تأثير التدخل الدولي على بعض شعوب دول العالم وانعكاساته الخطيرة على امن واستقرار شعوب هذه الدول ولاسيما فيما يتعلق ببروز وتصاعد حدة حروب الاقليات والنزاعات الداخلية كأحد الظواهر التي تعاني من سلبياتها كثير من دول وشعوب العالم وانعكاس ذلك على تصاعد عمليات التدخل الخارجي لتأجيج حدة تلك الحروب بهدف الابقاء على الاوضاع الراهنة ودفعها نحو المزيد من التجزئة والتفتيت وعدم الاستقرار السياسي وكذلك التركيز على ظاهرة التعدد القومي والاثني وتأثير المتغيرات الدولية والاقليمية ودور القوى الدولية العالمية في توظيف الاقليات وبث مفاهيم الفرقة بين الجماعت الاثنية والقومية واثر صراع القوى الاقليمية على بلدان متعددة القوميات والاثنيات.
اتمنى من هذه المقالات تشكيل صورة بينة عن طبيعة الجماعات او الاقليات المتباينة في ثقافتها وحضارتها والكشف عن العوامل التي اسهمت في بلورة الظاهرة وتشكيلها وما اثارته من مشاكل وكيف تم استغلالها من قبل الاخرين وتحليل مسببات النزاعات الاثنية وتأثيرها على الاستقرار السياسي الداخلي للدولة وكذلك العوامل والمؤثرات الاقليمية والدولية وماهي سبل الخلاص من التاثيرات السلبية لهذه الظاهرة .