محمد صادق امين
اعلامي وكاتب
أصبحت الأزمات والخلافات في صفوف حركات الإسلام السياسي، من الأمور الظاهرة
والبارزة في السنوات الأخيرة، وقد ارتقت هذه الازمات في بعض الاقاليم إلى مستوى
صراع الاجيال بسبب عدم المراجعة والمعالجة للازمات المتراكمة داخل الصف
الحركي.
وتلقي هذه الأزمات أضواء كاشفة على واقع الحركات في العالم الإسلامي؛ الذي لا
يزال منذ قرن من الزمان يرزأ تحت وطأة التخلف والجهل والذيلية والقمع، حتى غدت
شعوبه رمزا للتخلف والفقر والجوع والرجعية في العالم المتحضر! هذا الواقع لم يأت
من السماء ولا من مؤامرات الأعداء، ولا بسبب الحكام الطغاة الذين نصّبهم المستعمر-
كما في بعض القراءات-! بل جاء نتيجة حتمية لتواطؤ جمعي للأمة (في شخصيتها
العامة) على التخلي عن سنن النهوض والرقي والدليل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}،
لذلك هوت هذه الشعوب إلى أسفل نقطة في المنحنى البياني الذي يرسم خط سير
الحضارة الإنسانية، فالأمة تأكل ما لا تزرع وتلبس ما لا تصنع! حتى غدا عدد
الـ(مولات) ينافس عدد المدارس والكليات! هذا على الصعيد المادي.
أما على صعيد القيم الروحية فقد انتهكت الحرمات واحتلت المقدسات ووقفت
شعوب المليار ونصف تتفرج على الانتهاكات بحق المسجد الأقصى المبارك، وتدل
كل الشواهد التاريخية على أن المسجد الأقصى هو المقياس الذي يقاس به واقع البشريةعلى امتداد تاريخها؛ فحين يقوى أهل الخير والعدل والحق تسيطر عليه الفئة الظاهرة
على الحق، وحين تتخلى هذه الفئة عن سنن الله ومنهجه الكوني والتشريعي تدور عليهم
الدائرة؛ ويظهر الباطل مجلجلا مسيطرا فارضا إرادته على الأرض ومن عليها، وعلى
سبيل المثال لا الحصر قال الله تعالى على لسان سيدنا موسى (عليه السلام) { ادْخُلُوا
الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} وحين
خافوا وتخلفوا عن الأمر بسبب خوفهم من العماليق الذين يسيطرون على القدس كانت
النتيجة: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ
الْفَاسِقِينَ} وتحديد سنين التيه بالأربعين جاء بهدف تغيير جيل الهزيمة بجيل النصر فهي
فترة زمنية كافية لاستبدال الأجيال البشرية.
حتمية التغيير
الرابط بين هذه المقدمة وحديثي عن التغيير هو أنني اقرأ واقع شعوب الأمة الإسلامية
اليوم قراءة تربط شكليا وموضوعيا بين هذا الواقع وسني التيه الأربعين لأتباع سيدنا
موسى عليه السلام، فأجد أننا لازلنا نعيش مرحلة التيه؛ وأتلمس نهاية هذه المرحلة
بحركات التغيير التي بدأت أصواتها تتعالى هنا وهناك.
وبما أن الحركات الإسلامية هي أكثر قطعات الشعوب المسلمة واقعية وحركية وحيوية؛
وهذا ليس كلامي بل هو كلام مركز بحثي أمريكي تابع للكونغرس حيث وصف احد
تقاريره حركة الإخوان المسلمين بأنها "حركة المعارضة المصرية الوحيدة المنظمة
بشكل جاد" طبعا ما يقال عن الإخوان ينطبق على غالبية الحركات الإسلامية في العالم
الإسلامي كونها الحركة الأم التي قادت أول صحوة إسلامية حركية في العالم الإسلامي
منذ سقوط الخلافة، ومن رحمها خرجت كل الحركات؛ منها المرتبط تنظيما ومنها
المرتبط فكريا ومنها المرتبط من ناحية الانتماء المدرسي العام، لذلك نجد أن أول بوادرحراك التغيير في الأمة بدأت من داخل الحركات الإسلامية، والتي ما هي إلا تجارب
بشرية يقودها رجال يخطئون ويصيبون، هذه الحركات تشكلت خلال مرحلة ما أسميه
(سني التيه) لذلك أصاب هذه الحركات كل السلبيات والمثالب التي أصابت أجيال التيه
المتعاقبة في الأمة المسلمة، على سبيل المثال لا الحصر؛ (الشمولية والاستبداد
والدكتاتورية والاستئثار بالسلطة والتفرد بالقرار والفساد والمحسوبية وإهدار المال
العام....الخ) كل هذه من السمات التي تطبع شعوب مرحلة (التيه) وإليها ينسب سبب
التخلف، وبما أن الحركات الإسلامية جزء من هذا الواقع وليست كائنا محلقا فوقه ؛
كما يصور فقه سيد قطب رحمه الله، فقد أصابت الحركات الإسلامية حظها من هذه
السمات العامة،، وكما برزت في الدول الإسلامية ظاهرة اختطاف الدولة من فرد
ومجموعة أفراد، ظهرت كذلك في الحركات الإسلامية ظاهرة اختطاف الحركات من
فرد أو مجموعة أفراد، لذلك سجلت هذه الحركات الإخفاقات تلو الإخفاقات سياسيا
وفكريا وتنظيميا، وليس ثمة عيب في الإخفاق؛ فالعمل البشري يتراوح بين النجاح
والفشل والصواب والخطأ تبعا لطبيعة التركيبة البشرية،إلا أن الإشكال يكمن في القدرة
على المراجعة ونقد الذات وإجراء التغيير تبعا لمستجدات الحوادث، وبما أن الاستبداد
الذي يعم المجتمع يسيطر على هذه الحركات فقد توقفت عجلة المراجعة والتصحيح ؛
ومن ثمة التغيير وبدأت الحركات الإسلامية تراوح مكانها مراوحة تتوافق مع مراوحة
الحراك المجتمعي المحيط بها والناتج عن نفس الظروف الموضوعية للمحيط، وإن
كانت الحركات الإسلامية متقدمة على المجتمع بخطوة واحدة، إذ ثمة حراك
ومراجعات مستمرة داخل الحركات وان كانت شكلية يقوم بها نفس الأشخاص
المتسببين بالسياسات الخاطئة، وهو ما أهل هذه الحركات لتكون الرائدة التي تنبثق
منها حركات التغيير الداخلي.لا يفهم من كلامي هذا على الإطلاق أنني أغمط الحركات الإسلامية حقها، وأقلل من
دورها في وضع الشعوب المسلمة على طريق الخروج من مأزق التخلف والذيلية، فهذه
الحركات قادت الشعوب في مرحلة (الصحوة) التي انتشر أثرها في كل مكان وشمل
كل قطاعات الحياة، إلا أنها لم تتمكن من ترشيد وتوظيف (الصحوة) باتجاه التغيير
المجتمعي الشامل لأنها أصيبت ببعض ما في المجتمع من مثالب وعيوب، فظلت تراوح
في مكانها مكتفية بما حققت من انجازات دون خطة أو رؤية للانتقال إلى مرحلة ما
بعد (الصحوة) والسبب يكمن في وجود قيادات قد لا تتناغم مع حركة التغيير أو غير
قادرة على التعاطي مع المستجدات بسبب محدودية الكفاءة و تواضعها أحياناً.
التعطش للتغيير
اندثار جيل (التيه) جيل (الهزيمة) إلى جانب تأثيرات العولمة وعصر التكنولوجيا
والمعلوماتية أظهرت جيلا جديدا متعطشا للتغيير في البلاد الإسلامية، غير قادر على
الوقوف موقف المتفرج على حال الجمود والمراوحة في الأمة بشكل عام، وبما أن
الحركات الإسلامية هي أكثر قطعات المجتمع نضجا وحيوية كما أسلفت فقد انطلقت
منها شرارة المطالبة بالتغيير وهو ما انعكس على شكل خلافات تنظيمية نسمع بها هنا
وهناك، منها ما يخرج للعلن ومنها ما يدار في السر ، ومنها ما حسم أمره وحقق التغيير
الشامل.
وهنا استشهد بواقعة نشرتها شبكة إسلام أون لاين تحت عنوان (مؤتمر فتح الله كولن
يجذب مجانين الإصلاح) وهو المؤتمر الدولي الذي عقد في القاهرة للفترة من 19-
21 تشرين الأول عام 2009 بجامعة الدول العربية حيث شهد المؤتمر إقبالا غير
مسبوق لاكتشاف هذه الحركة التي كانت تعد في ذلك الوقت نموذجا لمساندة التغيير
داخل الحركات الاسلامية بسبب مساندتها لحركة التغيير التي قادها جيل رجب طيباردوغان في تركيا، حيث شهد المؤتمر اقبالا منقطع النظير من الاجيال الشابة "تجلَّى
ذلك في تدفق ما يزيد على 500 سؤال من المتشوقين لاستكشاف الحركة إلى منصة
إدارة الجلسة، وهو الرقم الذي قالت الدكتورة باكينام الشرقاوي، نائبة مدير برنامج
حوار الحضارات بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، إنه يكاد يكون غير
مسبوق في تاريخ المؤتمرات التي شهدتها من قبل، وفسرته بأنه تعبير عن عطش
الشعوب المسلمة لمثل هذا النموذج الحي للإصلاح والذي أثمر شبابا ورجال أعمال
ومعلمين ومثقفين يطبقونه في أكثر من 100 دولة" نقلا عما قيل في حينه عن هذا
المؤتمر مع التحفظ على بعض الافكار والمتغيرات التي طرأت لاحقا.
استشهد بهذه الواقعة للدلالة على ان التغيير داخل الحركة الإسلامية أصبح أمرا ضروريا
ملحا في المرحلة الانتقالية من مرحلة (الصحوة) إلى مرحلة (التغيير) التي يقبل عليها
المجتمع، وما لم يحصل التغيير فإن الحركات الإسلامية ستتخلف عن الحراك
المجتمعي، وستحصل انقلابات داخل الحركة بدل التغيير الطبيعي كما حصل في تركيا.
الدعوة للتغيير باتت تتردد في كل وقت ومن أكثر عقلاء الجماعات الإسلامية، واذكر
هنا ما قاله الاستاذ محمد مهدي عاكف فك الله اسره المرشد السابق لجماعة الإخوان
في حوار جمعه بالكاتب والمفكر الإسلامي كمال الهلباوي على قناة الحوار يوم الجمعة
الموافق 23/10/2009 حيث قال: "أدعو الشباب الغاضب الذي يعبر عن غضبه عبر
الانترنت بسبب الأوضاع السائدة إلى التوجه للانتخابات القادمة داخل الجماعة
وإحداث التغيير الذي يطمح إليه من خلال صناديق الاقتراع".
التغيير قادم والعاقل هو من توافق مع السنن؛ والمغامر من صادمها لأنه يصادم سنن الله
في خلقه وكونه..وهي غالبة لامحالة.لذلك؛ على الحركات الإسلامية ان تدرس آليات تحرك المياة الساكنة داخلها، وتخرج
خلافاتها من السر الى العلن، ثم يلتقي حكماؤها على آليات تتوافق مع ما وصل اليه
البشر من نظريات في فنون إدارة الحياة، والمؤسسات، بدل الاستناد الى النصوص التي
يمكن ان تؤول وتكيف حسب تصورات الافراد او مجاميع منهم.