د.امجد الجنابي
أكاديمي واعلامي
منذ مدة وانا افكر في الحدود الفاصلة بين القائد والمدير، ومدى ارتباطهما وانفصالهما في مساحات معلومة، ثم ماذا يعني كل منهما في ظل قيام المؤسسات الكبرى بمهامها على اتم وجه دون ان تتعلق بمدير بذاته او قائد بعينه!
لنتفق اولا على مجموعة معايير تكون هي الحاكمة لما سياتي فيما بعد:
اولا: يبدأ القائد بدوره ويبدع في آراءه حين يعجز نظام المؤسسة على تجاوز ازمة ما نتيجة عدم وجود ما ينظم عملها في امر طاريء مستحدث.
ثانيا: المساحة الاوسع هي لما هو مكتوب ومقنن في النظام وليس ما يراه القائد او يهواه.
ثالثا: لكل مؤسسة نظامها الداخلي وقوانينها الصارمة والتي يتساوى امامها الموظف الصغير وراس الهرم من دون تفريط بالواجبات ولا افراط في الحقوق.
رابعا: الاصل في القيادة انها جماعية ممثلة بمجلس ادارة يعرف كل عضو فيه مهامه بدقة وصلاحياته وحدود القرار فيه.
خامسا: يمارس القائد دورا اداريا في اغلب الاوقات الا في حالات نادرة وليس العكس.
مما تقدم يتبين لنا ان هناك مفاهيم خاطئة كثيرة يجب ان تصحح داخل منظومة المؤسسة ، ولتسير الامور بشكل انسيابي وصحيح يجب مراعاة كل ذلك، او على الاقل تحرير المصطلحات والاتفاق على صلاحيات (القائد والمدير ) ووضع نظام مؤسسي حاكم لهما.
من الناحية الشرعية لدينا نصوص عظيمة تؤسس لمجموعة من القيم والتي تنفع كمرجعية ومظلة كبيرة لما ذكر آنفا وليست بديلا عنه ولربما يحلو للبعض ان ياتي بهذه النصوص ويتركها عامة دون بناء عليها ولا تفريع منها ويترك لنفسه مساحة اجتهاد كبيرة يتحرك فيها بغير ضابط ولا قانون حاكم ثم يستشهد بهذه النصوص العامة !!
لنتامل في النصوص ماذا نجد ؟
يذكر الحافظ النووي رحمه الله في باب النهي عن سؤال الإمارة ما نقله عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إنك امرؤ ضعيف وإني أحب لك ما أحب لنفسي فلا تأمرن على اثنين ولا تولين على مال يتيم)؛ وهذه أربع جمل بين الرسول عليه الصلاة والسلام لأبي ذر فيها ما بين، فأما الأولى: فقد قال له:(إنك امرؤ ضعيف)، وهذا القول إذا كان مصارحة أمام الإنسان فلا شك أنه ثقيل على النفس وأنه قد يؤثر فيك أن يقال لك إنك امرؤ ضعيف لكن الأمانة تقتضي هذا ، وهو أن يصرح للإنسان بوصفه الذي هو عليه إن قويا فقوى وإن ضعيفا فضعيف، ولا حرج على الإنسان إذا قال لشخص مثلا إن فيك كذا وكذا من باب النصيحة لا من باب السب والتعيير فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: إنك امرؤ ضعيف.
اما الثانية: فقوله : (وإني أحب لك ما أحبه لنفسي)، وهذا من حسن خلق النبي عليه الصلاة والسلام لما كانت الجملة الأولى فيها شيء من الجرح قال وإني أحب لك ما أحب لنفسي يعني لم أقل لك ذلك إلا أني أحب لك ما أحب لنفسي .
والثالثة: (فلا تأمرن على اثنين):ويعني بها لا تكن أميرا على اثنين وما زاد فهو من باب أولى والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه أن يكون أميرا لأنه ضعيف والإمارة تحتاج إلى إنسان قوي أمين؛ قوي بحيث تكون له سلطة وكلمة حادة وإذا قال فعل لا يكون ضعيفا أمام الناس لأن الناس إذا استضعفوا الشخص لم يبق له حرمة عندهم وتجرأ عليه لكع بن لكع وصار الإنسان ليس بشيء لكن إذا كان قويا حادا في ذات الله لا يتجاوز حدود الله عز وجل ولا يقصر عن السلطة التي جعلها الله له فهذا هو الأمير حقيقة.
والرابعة : (لا تولين مال يتيم)، واليتيم هو الذي مات أبوه قبل أن يبلغ فنهاه الرسول عليه الصلاة والسلام أن يتولى على مال اليتيم لأن مال اليتيم يحتاج إلى عناية ويحتاج إلى رعاية، قال تعالى: ((إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا))، وأبو ذر ضعيف لا يستطيع أن يرعى هذا المال حق رعايته فلهذا قال ولا تولين مال يتيم يعني لا تكن وليا عليه دعه لغيرك ففي هذا دليل على أنه يشترط للإمارة أن يكون الإنسان قويا وأن يكون أمينا لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال إنها أمانة فإذا كان قويا أمينا فهذه هي الصفات التي يستحق بها أن يكون أميرا فإن كان قويا غير أمين أو أمينا غير قوي أو ضعيفا غير أمين فهذه الأحوال الثلاثة لا ينبغي أن يكون صاحبها أميرا.
ولكن يجب أن نعلم أن الأشياء تتقيد بقدر الحاجة فإذا لم نجد إلا أميرا ضعيفا أو أميرا غير أمين وكان لا يوجد في الساحة أحد تنطبق عليه الأوصاف كاملة فإنه يولى الأمثل فالأمثل ولا تترك الأمور بلا إمارة لأن الناس محتاجون إلى أمير ومحتاجون إلى قاض ومحتاجون إلى من يتولى أمورهم فإن أمكن وجود من تتم فيه الشروط فهذا هو الواجب وإن لم يوجد فإنه يولى الأمثل فالأمثل لقول الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} وتختلف الأنظار فيما إذا كان لدينا رجلان أحدهما أمين غير قوي والثاني قوي غير أمين كل منهما معيب من وجه لكن في باب الإمارة يفضل القوي وإن كان فيه ضعف في الأمانة لأن القوي ربما يكون أمينا لكن الضعيف الذي طبيعته الضعف فإن الطبع لا يتغير ولا يتحول غالبا فإذا كان أمامنا رجلان أحدهما ضعيف ولكنه أمين والثاني قوي لكنه ضعيف في الأمانة فإننا نؤمر القوي لأن هذا أنفع للناس فالناس يحتاجون إلى سلطة وإلى قوة وإذا لم تكن قوة ولا سيما مع ضعف الدين ضاعت الأمور
من هنا كان لزاما علينا ان نبحث ونتدارس ونوسع مداركنا حول القيادة والادارة، وان نكون على دراية كاملة بخطورة هذا الموقع واهميته ولو كان رعاية طفل يتيم!
وفي شرح النووي هنا عدة اشارات مهمة ومثابات واضحة منها قضية (المال) والامانة فيه، ومنها (القوة) في اتخاذ القرار وربما في الالتزام بالنظام (يا يحيى خذ الكتاب بقوة) يقول سيد قطب رحمه الله تعالى:
" فها هو ذا أول موقف ليحيى هو موقف انتدابه ليحمل الأمانة الكبرى. «يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ» .. والكتاب هو التوراة كتاب بني إسرائيل من بعد موسى، وعليه كان يقوم أنبياؤهم يعلمون به ويحكمون. وقد ورث يحيى أباه زكريا، ونودي ليحمل العبء وينهض بالأمانة في قوة وعزم، لا يضعف ولا يتهاون ولا يتراجع عن تكاليف الوراثة..
وبعد النداء يكشف السياق عما زود به يحيى لينهض بالتبعة الكبرى:
«وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً، وَكانَ تَقِيًّا» ..
فهذه هي المؤهلات التي زوده الله بها وأعده وأعانه على احتمال ما كلفه إياه عند ما ناداه..
آتاه الحكمة صبيا. فكان فذا في زاده، كما كان فذا في اسمه وفي ميلاده. فالحكمة تأتي متأخرة. ولكن يحيى قد زود بها صبيا.
وآتاه الحنان هبة لدنية لا يتكلفه ولا يتعلمه إنما هو مطبوع عليه ومطبوع به. والحنان صفة ضرورية للنبي المكلف رعاية القلوب والنفوس، وتألفها واجتذابها إلى الخير في رفق.
وآتاه الطهارة والعفة ونظافة القلب والطبع يواجه بها أدران القلوب ودنس النفوس، فيطهرها ويزكيها.
«وَكانَ تَقِيًّا» موصولا بالله، متحرجا معه، مراقبا له، يخشاه ويستشعر رقابته عليه في سره ونجواه.
ذلك هو الزاد الذي آتاه الله يحيى في صباه، ليخلف أباه كما توجه إلى ربه وناداه نداء خفيا. فاستجاب له ربه ووهب له غلاما زكيا.."
ويأتي الامام النووي بباب سماه (باب حث السلطان والقاضي وغيرهما من ولاة الأمور على اتخاذ وزير صالح وتحذيرهم من قرناء السوء والقبول منهم) ، ويستشهد له بقوله تعالى: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين{ .
ثم باحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ومنها: عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه والمعصوم من عصم الله ) رواه البخاري..وايضا عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بالأمير خيرا جعل له وزير صدق إن نسى ذكره وإن ذكر أعانه وإذا أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسى لم يذكره وإن ذكر لم يعنه ) رواه أبو داود بإسناد جيد على شرط مسلم.
ينبغي على جميع المؤسسات التي تريد النجاح في عملها ان تتسلح بامرين مهمين:
اولا: مرجعية قيمية تفعل الرقابة الذاتية وتدفع العاملين الى المضي في تطوير مؤهلاتهم والابداع في عملهم مهما كان مركزهم الذي يشغلونه.
ثانيا: نظام مفصل لكل المؤسسة من هرمها الى قاعدتها، وفيه تتوزع الواجبات والمسؤوليات بطريقة مهنية محترفة مسنودة بنظم للمكافآت والتدريب والتحفيز .
ان الجمع بين اصالة القيم كمرجعية وحداثة النظم كفيل بتجاوز معظم الازمات التي عصفت بكثير من المؤسسات والجماعات وهي وصية لكل المتصدرين للمشهد ان يراجعوا ويستدركوا ويضعوا الامور في نصابها الصحيح.