تعدد الأعداء وسياسة المواجهة


د. أحمد هاشم
أكاديمي وباحث

إن الصراع أمر لا سبيل الى تجاهله على كافة الاصعدة؛ وهو من مسلمات العمل الميداني؛ فظاهرة العداء ظاهرة كونية، منبثقة من سنة التدافع بين البشر لأسباب كثيرة ومختلفة، اصطبغ بعضها بالبعد الديني أو الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي، وغالبا ما تتداخل فيه كل الأبعاد.
إن تاريخ البشرية منذ القدم حافل بصراعات دامية على مستوى الأفراد أو الجماعات، استخدمت فيها جميع الوسائل والإمكانيات المادية والفكرية، سواء كانت وسيلة تلك الصراعات عسكرية، أو وسائل ناعمة بمواجهة العدو فكريا وإسقاطه إعلاميا ثم الإجهاز عليه.
إلا أنهم على الرغم من صراعهم واختلافهم متفقون على أن مواجهة الأعداء لا سبيل للهروب أو التهرب منها في نهاية المطاف، سواء على الصعيد الشخصي أو المؤسساتي، فالحق والباطل لا يجتمعان أبد الدهر.
إن خطورة الصراع وتهديداته من حيث البساطة والتعقيد تختلف بحسب الظروف المرحلية، ففي وقت ما يبلغ حد الصراع الى درجة الإلغاء والإنهاء، مرورا بالتنازل عن بعض المكاسب المادية، وبين درجة الإلغاء-التي تعتبر آخر درجة في سلم المواجهة وأخطرها- وبين التفريط ببعض الاستحقاقات= درجات تتفاوت شدتها وأضرارها -على ضوء مسبباتها- في كيفية مجابهتها واستخدام والوسائل المناسبة للتعاطي معها وتجاوز مرحلتها، لاسيما اذا علمنا ان تلك الاسباب نابعة من اختلاف المجتمعات بحسب طبيعة الحالة المجتمعية الطاغية عليه، فلكل مجتمع سياسة خاصة في التعامل معه.
غير إن من أصعب تلك الصراعات الصراع السياسي ذو البعد الديني؛ لكثرة تعقيداته، وتشابك مدخلاته التاريخية، واضطراب نتائجه، وانعدام القيم في التعامل بين الأطراف، فصديق الأمس قد يكون من ألد الأعداء اليوم، و عدو اليوم قد يصبح المدافع غدا، حتى اشتهر بين العاملين في الحقل السياسي، ان التحالفات السياسية أشبه بالرمال المتحركة: الثابت فيها متغير، والمتغير فيها ثابت، وعلى الرغم من عدم الاستقرار هذا، وضبابية العلاقات التي تربط المسار السياسي، إلا أن المستكشف للقران والسيرة وتاريخ الامم فيما يخص سنن الصراعات والنزاعات يجد منهجية تضبط للعاملين سيرهم، وقواعد في تعاملهم مع أعدائهم وخصومهم، وممارسات انتهجوها خففت عليهم من الضغوط، ووَقَتْهُم نتائج ردود الافعال، مشهود لها تاريخيا انها مورست من قبل أحزاب ومؤسسات سياسية حتمت الظروف عليها أن تكون في حالة المواجهة.
ومن أهم خطوات سياسة المواجهة التي يستعان بها على مواجهة الخصوم هي:

1.تشخيص الأعداء:
(هم العدو فاحذرهم)، إن حسم مواقف الآخرين بالنسبة لطرفي الصراع من عوامل القوة، وأقواها معرفة الأعداء، وهي من أهم خطوات المعالجة في دحر الخصوم وتفتيت مؤامراتهم، فتوفر القوة والإمكانات مع غياب العدو الحقيقي يجعل تلك القوة لا قيمة لها في ذروة الصراع؛ لعدم توجهها الى مستحقها، في الوقت الذي يتمكن فيه العدو الحقيقي خلسة من الوصول الى مبتغاه، ويكمن تشخيص العدو في معرفته وتمييزه بحسب اعتبارات مختلفة، اهو داخلي أم خارجي؟ فردا كان أم مؤسسة ام دولة؟ هل هم متفقون أم اجتمعوا فقط لإزاحة خصمهم؟
وتبرز الصعوبة في رصدهم والتأكد من خصومتهم في خفاءهم وعدم ظهورهم للعلن، فغالبا ما تكون الخصومة السياسية غير ظاهرة، وتقوم على مبدأ توزيع الأدوار بين الأطراف المعادية، فقد يكون من في صفك ويدافع عنك وينافح دونك مأمورا بهذا الدور، ومنهم يأخذ جانب الحياد ليكون خيار تسوية يفرض على المشهد، أما العدو الظاهر فقد يكون أقل خطورة ممن لم يكشفوا عن أنفسهم ويعلنوا نياتهم، ويستعان على كشف الخصوم بالتاريخ السياسي لهم، والمعرفة الذاتية بهم، والمواقف الميدانية التي اتبعوها في التعامل مع أهدافك.

2.معرفة اللاعب الرئيس:
(من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي)، على الرغم من ان الذين تكلموا في حادثة الإفك جماعة، إلا ان رسول الله ألقى الضوء على مصدر الفتن ورأس النفاق، فقد اقتضت طبيعة الصراعات أن تكون هناك شخصية رئيسة تحكم نسق الصراع، وتدير المؤامرات، وتوجه الأتباع، وترسم خطط الإطاحة بالطرف الآخر، سواء أخذت هذه الشخصية طبيعة فردية أو دولية، فمن المستحيل أن يجتمع فرقاء سياسيون على رأي واحد ما لم يكن هناك شخص أو دولة تقنعهم بالاجتماع، وغالبا ما يكون صاحب المال في وقتنا هو العراب الحقيقي، والموجه الفعلي لهم، وهذا يعني أن البحث عن صاحب المال يفضي الى معرفة اللاعب الأول، وبالتالي يكون هذا العدو مركبا من عدة حلقات، كل حلقة تدير من تحتها؛ لتضلل الخصم عن الفاعل الحقيقي لأبعاد مستقبلية، فمعرفة المحرك الرئيس يقصر المسافة، ويوفر الجهود في المواجهة، ويحشد الأمكانيات في الاتجاه الصحيح، وذلك بفهم مراده والغاية من عدائه، و التعامل معه عن طريق التفاوض أو التنازل عن بعض المكاسب لدفع ضرر أكبر، أو للإطاحة به وبالتالي الإطاحة بمن هو دونه من الخصوم، وغالبا يعد من ضياع الوقت التعامل مع الأدوات بمعزل عن اللاعب الرئيس، فهم في النهاية بيادق بيده.

3.طبيعة التحالف بين الخصوم:
(تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى)، ان من أعظم المطمئنات في الصراع معرفة طبيعة تحالف الخصوم، فمن المعلوم أن التحالفات أما أن تأخذ طبيعة استراتيجية بعيدة المدى، أو طبيعة وقتية مرحلية، فمعرفة طبيعة التحالف للخصوم مع الوقوف على القواسم والمصالح المشتركة بينهم يعطي مساحة أكبر للتحرك على تشتيت تلك المصالح، فقد يكون اجتماعهم قائما على مكاسب متقاطعة لكل طرف مكسب مختلف عن الآخر والعمل المشترك بينهم يحقق لكل طرف مراده، فاذا كان الذي يجمعهم مبدأ مالي فإن ذلك يختلف عما إذا كان اجتماعهم قائما على أساس ديني، وبالتالي إضعاف الجبهة الداخلية من خلال التسلل الى أعماق تلك المصالح، وسحب العنصر المؤثر من تلك المعادلة، الذي يمثل فتيل القنبلة التي يراد أن تدمر مشروع الطرف الآخر  ومكتسباته، وإن غياب التصور المسبق عن طبيعة تحالف الخصوم قبل المباشرة بالتصدي لهم أشبه بالسير في الصحراء بدون بوصلة.

4.نقاط قوة الأعداء وضعفهم:
(لا يقاتلونكم جميعا الا من وراء جدر)، (ان تكونوا تألمون فانهم يألمون كما تألمون)، من الحكمة الكونية أن لكل شيء مواطن قوة وضعف، لا يمكن أن تتخلف عن أحد من المخلوقين في الوجود، وهذه الحكمة تجري على البشرية لبيان ضعفهم وتمام مضي سنة التدافع بينهم، ولقد رصد لنا التاريخ إن أعظم الدول والمماليك والجيوش والقادة مهما بلغوا من قوة وسطوة إلا أن خصومهم أدركوا أن فيهم نقاط ضعف، وظفت في تحطيمهم وإزالتهم، وما فرعون والعثمانيون والشيوعيون والنازيون ونابليون وهتلر إلا أمثلة تثبت ما تقدم.
وتتوزع طبيعة الضعف بين الجانب النفسي والبنيوي أو الانحدار في الإمكانيات العسكرية والمالية، أو تخلف في جانب الإدارة والتخطيط القريب والمتوسط والبعيد=الإستراتيجي، علما أنها أسباب متكررة في كل زمان وكل مسار، فالمتصدي الذي يروم إفشال مخططات أعدائه عليه أن يرصد الأوراق التي يلعب بها خصمه قوة وضعفا؛ لأن الذي يجهل قوة عدوه قد ينخرط في مواجهة مهلكة تذهب به وبأتباعه في مغامرة لم يحسب لها، كالذي يأتي البيوت من غير أبوابها فيغدو خبرا بعد أثر، أما غياب نقاط ضعف الخصم من المخطط فلا يقل خطرا عن عدم إدراك مواطن القوة له؛ لأنها أشبه بالتشققات في جدار تحالفهم التي يمكن النفاذ من خلالها على الخلافات بينهم، وكشف دور كل طرف فيهم، والبحث عن عديمي المبدأ؛ لاستمالة الأشخاص النفعيين لصالحك، أو استخدام الإعلام بإظهار سرقاتهم وتخاذلهم عن الجمهور إن كان يعول عليهم، وقد تضطر للتظاهر أن بعضهم يتبع لك، وما أن ينتهي الأمر حتى يعود ليأتمر بأمرك، مع مراعاة عامل الزمن لاسيما وأن العدو يستغل كل لحظة للإطاحة بخصمه، فحصر تلك الحيثيات أمر لابد منه في تجاوز ما يحاك ضدك.

5.امتلاك القوة:
(وليجدوا فيكم غلظة)، ما من طرفي صراع إلا واحتاجا الى جانب القوة في إدارة حسم النزاع نصرا كان ذلك الحسم ام تعايشا على مبدأ توازن القوة ولو مؤقتا، فمن بديهيات القول إن بعض الصراعات لا تحتاج الى قوة في حسمها، إذا كانت لا تاخذ طابع الصفرية، لكن في المقابل توجد صراعات لا يحسمها الا التدمير والإقصاء، كعلاج لا يمكن استخدام غيره مع الخصم، فامتلاك القوة شرط أساسي لتصدر المشهد، وهو ما قرره شيخ الاسلام في بعض فتاواه بعدم جواز التصدر بدون قوة، وهو رأي منطلق من واقع عايشه وقاسى آلامه.
ان للقوة مفاهيم متعددة وتفسيرات متشعبة على حسب المجالات التي تدخل فيها، و هذا الاختلاف أمر طبيعي لم يحسمه القران الكريم حينما ذكرها وامرنا بإعدادها وبذل الجهود في تحصيلها فأوردها عامة بصيغة النكرة؛ لتدخل في كل قضية كإحدى وسائل تحقيق الاهداف، إلا أن المقصود بها في هذا المقال القوة العسكرية، التي تمثل الدرع الحامي لأي مشاريع فكرية واقتصادية وسياسية، فغياب القوة المادية من حسابات أي مشروع جمعي استراتيجي في بيئة تعج بخصوم لا يفهمون ويحترمون إلا صاحب القوة أمر من ضروريات وجوده، باعتبارها من مستلزمات سنة التدافع بين الأمم،  فأصحاب المشاريع الذين لا يجعلون في حسبانهم امتلاك ما يدفعون به الخصوم هم أما قابعين في سجون ينتظرون مصيرهم، أو انصهروا في مشروع خصومهم وانهارت مشاريعهم وأصبح المراقب لا يكاد يرى له أثر، فصادقهم سيدرك أنه كان يعيش في عصر الأوهام، ومعاندهم سيعد من أوهام هذا العصر، هذا لمن أراد ان يمكن لمبادئه ورسالته، أما من كان همه أن يقنع خصومه بحسن أخلاقه بتنازله عن العنف فسيرضى بسلمية ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يكتبها على عالم الحشرات فضلا عن غيرها.


وأخيرًا..  إن المؤسسات التي لديها القدرة على إدارة الصراع هي التي تتكيف بسرعة مع الأحداث الحرجة أكثر من غيرها؛ لأنها تنظر الى الصراع من زواية مختلفة، وتحضر لغير المتوقع وذلك يتيح لها مساحة من التحرك في المناورة والمقاومة، وهي مدركة أن الخصوم عبارة عن صخور متفرقة، لا بد من العمل على تشتيتها قبل أن تصبح جبالا لا يستطاع تسلقها، فغض النظر عن ذلك يعني بالضرورة تحولها الى مشروع إجهاضي لكل ما تقوم به، و انعدام وغياب هذه المعايير، وعدم استحضارها في حالة الرخاء والتمكين، تجعل الإنسان كالأعمى في زحمة السير، ويصبح مشروعه ومؤسسته في حكم المفقود، ولن يستطيع الصمود أمام أضعف عدو يطمع بما أنجز وحقق من مكاسب، وقالوا قديما (عدوك إن كان نملة فلا تنم له).

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا