كأن أردوغان أبٌ للجميع..!



 نظير الكندوري
إعلامي وكاتب


من الدروس والعبر التي يمكننا استخلاصها من تجربة الانقلاب الفاشل الذي حدث في تركيا، هي معرفة  الاسباب التي  دعت أنصارَ الاحزاب المنافسة لحزبه أن يخرجوا للتظاهر كي يدعموا أردوغان وحزبه، ويهتفوا باسمه.
فلقد رأى الجميع، إن الكثير من الذين خرجوا في تلك المسيرات، كانوا من أنصار حزب الشعب الجمهوري الغارق في العلمانية، ‏وأكثر الاحزاب تعصبا لها، إضافة للاحزاب الأخرى،  بل خرج حتى الذين ليس لهم انتماءات سياسية، أو توجهات ‏إسلامية. ووصل الامر لوسائل الاعلام التي كانت تخالف اردوغان وحزبه، ‏وجدناها تناصر اردوغان، وتدافع عن تجربته ‏الديمقراطية، وما المكالمة الهاتفية التي قام بها أردوغان مخاطباً شعبه، والتي كان لها أكبر الاثر بخروج الجماهير لإفشال ‏الانقلاب، إلا دليل على ذلك، فقد بُثت من قناة ال ‏CNN‏ التركية التابعة لمؤسسة دوغان، وهي من أكثر المؤسسات الإعلامية التي لديها ‏خلافات مع أردوغان شخصياً. ‏
إن التفسير الممكن لكل هذه التناقضات، يكمن في طريقة تعامل اردوغان مع شعبه، المتألِّف من ‏أطياف سياسية متعددة، واعراق مختلفة ومذاهب كثيرة.
والمراقب لشخصية أردوغان، يَجزم إنَّ لهذا ‏الرجل شخصية ذات توجه إسلامي صحيح العقيدة، يحاول بكل شكل من الاشكال، أن يُرجع للمجتمع التركي دينه، بعد ‏موجة التغريب التي مورست عليه طيلة التسعين سنة الفائتة، لكنه من حيث تعامله مع شعبه كان يتعامل على ‏أساس الدولة المدنية، لا على أساس الدولة الثيوقراطية (الدينية).
وهذا التعامل والفهم الذي يحمله أردوغان في ‏حقيقته، هو عين التعامل الاسلامي في بناء الدولة الإسلامية، وقد  أصاب تطبيق السنة بعينها بسياسته هذه. فعندما ‏أسس رسول الله صلى الله عليه وسلم  دولته في المدينة المنورة، والتي كان يعيش فيها اليهود، والعرب المشركين، ‏والمسلمين الانصار منهم والمهاجرين، تعامل معهم ‏رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم على أساس المواطنة، ولم يتعامل معهم على أساس الولاء للعقيدة ‏الإسلامية فقط، ولم يُفرض عليها الاسلام ‏عنوةً، وهو المبدأ الإسلامي الذي تعاملت به الجيوش الاسلامية في فتوحاتها للأمصار المختلفة، فقد كان ‏الهدف من تلك الفتوحات، هو رفع الحجاب التي تفرضه الانظمة المستبدة ليكون حائلاً بين الناس ودين التوحيد، ومن ثمّ، تَدَعُ لهذه ‏الشعوب حرية الدخول لهذا الدين أو العزوف عنه (لا إكراه في الدين). ولقد رأينا كيف كان يعيش في ظل ‏الدولة الاسلامية أقليات كبيرة من اليهود والنصارى كمواطنين، لهم حقوقهم وعليهم واجباتهم، ولم يفرض عليهم الاسلام بالقوة وهذا هو المفهوم الإسلامي للمواطنة، وهذا سر نجاح ‏رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ومن بعده كل الحكام المسلمين.
 ولنأتِ الى الحركات الاسلامية الوسطية الحالية، ونرى كيف تعاملت مع الاخرين ممن هم من أديان ‏أخرى، أو يحملون أفكاراً سياسية أو فلسفية متناقضة مع الدين الاسلامي، ولنقيّمها ونشخص مواطن الخطأ والصواب في عملها. ولنركز على تلك الحركات الإسلامية التي كانت تعمل في بلدان تضم طيفاً واسعاً من الانتماءات المختلفة، ‏ مثل العراق.‏
كان للحركة الاسلامية في العراق أعمال حسنة كثيرة في دعوتها أبان فترة التسعينات، تلك الفترة التي أخذت فيه ‏الحركة الاسلامية هامشاً لا بأس به من حرية الدعوة، ونجحت في كسب الكثير للعقيدة الاسلامية الصحيحة، ‏وغطت الحركة الاسلامية في دعوتها، كل القوميات التي تعيش في العراق، فتجد فيها العربي والكردي والتركماني. ولكن ‏ما الذي حصل بعد الاحتلال، لقد بلعت الحركة الاسلامية طُعم الطائفية كغيرها من المكونات الاخرى، ‏ وأزداد تطرفهم كرد ‏فعل على تطرف الأخرين ضدها، وارتضت حينها أن تكون ممثلة لطائفة، على أن تكون ممثلة للشعب كله، وتلك كانت الطامة الكبرى، حينما حشرنا أنفسنا في لباس ضيق ليس على ‏مقاسنا، يكشفُ عن عوراتنا. فالحركة الاسلامية اكبر من أن تكون كذلك، وكان حرياً عليها أن تتعامل مع ‏الامور من باب الابوة للجميع، لا أقصد أن يتم المداهنة على حساب العقيدة، فهذا الامر لا يمكن النقاش فيه، لكن كان يجب أن تكون الاب الكبير لكل تلك الاطياف والقوميات، وأن تكسب ‏ثقتها وتحتويها. ‏
والحق يقال، كان هناك مثل هذا الطرح في بداية تشكيل الحزب الاسلامي، والذي ضم لصفوفه، بعض الافراد من ‏الشيعة، ناهيك عن القوميات المختلفة. لكن ارتفاع منسوب المد الطائفي العارم، جعلهم يستبعدون كل شخص لا ينتمي للسنة،  وأستمر التطرف الى أن وصل الأمر، لعدم التحالف حتى مع السنة المخالفون لهم، وأستمر التطرف الى أن انقسمت الحركة نفسها، بين موالي للحزب وآخر للحركة، ولا نعلم إلى أي حد سوف يصل هذا التحجيم مستقبلاً. ‏
لقد تعامل أردوغان كأبٍ لكل الاتراك، علماني أو إسلامي، بل كان يحافظ على حقوق العلماني قبل الاسلامي، ليكسب ‏قلبه، ففي الوقت الذي يسنُّ التشريعات الاسلامية بالتدريج، فهو يدافع عن حقوق العلمانيين، ويعاقب من يعتدي ‏على حقوقهم، ما داموا هم مواطنين في الدولة التركية.
وهذا التعامل هو الذي جعل أغلبية ضباط الجيش التركي لا يشتركوا بالعملية الانقلابية ويستنكروها، بالرغم من إنَّ غالبيتهم الساحقة هم من العلمانيين، ‏ودافعوا عن التجربة الديمقراطية، مع علمهم إنَّ من يحكم البلاد، هو حزب ذو توجه إسلامي محافظ. ‏
إن ما تحتاجه الحركة الاسلامية في بلداننا بشكل عام وفي بلدِنا بشكل خاص، هو مراجعة حقيقية لتوجهاتها ‏وخططها، وعلى رأس تلك المراجعات، هو أن لا تحجّم نفسها لتكون ممثلة لأقلية دينية تعيش في البلد، بل يجب أن تكون ‏أبًا للجميع، وأن تُرسل رسالة لهم، سنة وشيعة وأكراد وتركمان وكافة الاقليات الدينية، إن نجاتهم تكمن ‏في الحلول التي تطرحها، وإنَّ حقهم كمواطنين في هذا البلد لا يصونه غيرها، وإنَّ احترامهم والدفاع عن حقوقهم ‏مصونٌ في دولة مدنية تقودها الحركة الإسلامية. كما يفعل الاب مع اولاده، ولنتذكر جيداً أنَّ من يرفع شعار الوصول الى ‏استاذية العالم، يجب أن يكون أباً للجميع، لا أن يفكر بعزل نفسه عن الأخرين.

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا