الأشرعة المفتوحة




مضر أكرم عثمان الدركزلي
كاتب عراقي

مشكلتنا:
     ان طغيان المفاهيم المادية بهذا السيل الجارف من فعاليات الحياة القائم على التسليع لكل حركة وسكنة وتحويلها الى حصالات وعدادات تحصي وتجمع النواتج المادية الرقمية والتي اغفلت الجانب الانساني في كثيرٍ من سياقاتها، فضلاً عن انتشار التيارات الاسلامية النصية التي ترنو من وراء اقامة الحدود الشرعية التقرب الى الله (U) بالتطبيق الحرفيّ للنصوص بغض النظر عن المناسبة، ضاربة بعرض الحائط كل ما ذكره العلماء من مناسبة الاحكام للازمان والاحوال المتعلقة بمن تنزل عليهم الاحكام من الناس،
هذان الامران وغيرهما أبعدا الامة عن الوسطية بتفريطٍ متمثلٍ بالبعد عن النصوص الشرعية والقيم الروحية وإفراطٍ  في تطبيق النص بجفوة وعنفٍ منفرٍ ماتت عنده وانقطعت انفاس ابداع الانسان التي أراد الله له أن يكون خليفته في أرضه،
الانسان اليوم منسلخٌ عن فئته متخلٍ عن وظيفته في الاستخلاف لفقدانه البوصلة الصحيحة والوجهة الصائبة، فاصبح الانسان ينتج قبحاً بدلاً من ان ينتج جمالاً ولا أعني هنا جمال حُسْنَ الصورة وبهاء الطلعة فلقد تكلفت مساحيق التجميل ومحسنات البشرة بذلك وزادت عليه حتى غيرت خلق الله، فغرق الانسان الحائر المسكين في الشكليات في الصورة المادية تارة وفي الفهم الجامد للنص تارةً أخرى فكانت وجوه ودروب الشقاء الذي نراه مرسوماً على محيى مجتمعنا اليوم شيباً وشباناً.
علاجها:
    هذان السببان علاجهما بأمرين:
أولهما: هو احياء القيم الجمالية وضروب الفنون وانزالها الى مراتب الواجبات احياناً لحاجة مجتمعاتنا اليها وعدم الاكتفاء بحصرها في دائرة المباح لان كلمة مباح هذه توحي بانها درجة متدنية من ضرورة الاستخدام وذلك يحتاج الى مقدرةٍ استثنائية في صياغة الرأي الفقهي و جُرْأَةٍ توازي صولة الفارس في تقديمها للجمهور المتلقي بلا خوف ولا وجل، لا ان يجاب على الاسئلة المتعلقة بمسائل الفنون بهمس الشفاه ولَيِّ الصياغة لان لا يجرح شعور فقيهٍ جامد او عابدٍ متنطع، وأرى ان لا تعنينا هذه الفئة من المتلقين لأنها لا تملك زمام امراها ولا تستطيع صناعة حياة غيرها فتلك مهمتنا وسهم سبقنا. كما ان هذا المجال هو اوسع بابٍ دخلت منه شرور الاعلام ومعاول الهدم الى مجتمعاتنا، ولقد ركزت على الفنون هنا على سبيل المثال لا الحصر ضمن قيم الجمال الظاهري لكن أتى ذكرها لسعة انتشارها، ولا نغفل هنا عن قيم جمال الروح والجمال الفني اللغوي وكل باقي قيم الجمال المصنفة.

ولأن نوافذ الانسان نحو العالم هي ثلاثٌ السمع والبصر والفؤاد وذكرها القرآن الكريم كأدوات حسية جمعية حاكمة في الآية الكريمة: ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) الإسراء: ٣٦ ، وكلما كانت هذه الوسائل الثلاث حادة وسليمة كان الفرز بين المشاهد اعلى مرتبة في الدقة والتصويب لأنها المداخل الى الفكر الذي يعد مدخل تغييرنا للمجتمعات، وهي موضع المسؤولية والمساءلة التي ذكرها القرآن الكريم.

    وثانيهما: هو العودة الى احياء فقه المقاصد. هذا الارث الفكري الثمين والعلم المتين الرصين، إذ لا بد من التوسع في تدريسه والتأكيد على وجوب التدريب عليه بعد تحصيله، والسبب في تأكيدي على وجوب التدريب على الاجتهاد وليس حفظ القواعد فحسب لأن الحفظ اسلوبنا والنسيان داؤنا والفهم والتطبيق والتدريب دواؤنا.
     وعندما تربى اجيالنا على هذين النسقين المهمين فقد حققنا هدفين في الميدان:
اول الأهداف: أننا غالبنا أهل الدنيا بالأدوات الصحيحة الا وهي القيم الجمالية وكل ما ينبع عنها لان الجمال هو من احب الأشياء الى النفس البشرية واقربها الى مهجته وبذلك سينشأ جيل ناجح تسكن قيم الجمال روحه وتفيض بها جوارحه ويلامس الفطرة ويقبل ويوصل بعدها الفكرة وبدون قيم الجمال نحن نربي وحوشاً كاسرةً بمجردِ ما ان تملك القدرة والسلطة ستفرض رأيها وتستبد. وثاني الأهداف: هو مزاحمة المشاريع الجامدة وكسر هيمنتها في تشكيل الاجيل وملأ الفراغ في مجالات النشاط الديني الذي هو غايتنا الأسمى وذلك بامتلاك فقه المقاصد الشرعية.
أفكار تهدم بنياننا:
لا افهم كيف نقنع المتربي على القيمة السياسية العالية والرغبة في الحكم وفي الوقت ذاته نقول له في أدبياتنا لا تزاحم الناس على الدنيا، هذا المبدأ اذا ربينا عليه تلاميذنا بشكل مجرد سيتناقض تمام التناقض مع رغبتنا في الوصول الى الحكم بشكل عادل وعن تراضٍ وطيب نفس، هذا المبدأ بعدم مزاحمة اهل الدنيا هكذا على العموم يصلح لجماعات لا تسعى الى الوصول الى الحكم في أدبياتها ونظمها الداخلية واهدافها الرسالية ولا يصلح لنا، او أن يقدم مبدأ القناعة بصيغة متوازنة لا تربكه ويجب ان تتوافق مع مكونات الفطرة السليمة في التملك.
    ان من السنن الكونية المهمة التي يطرحها القرآن الكريم وليس السنة النبوية اذ أن السنن الكونية معانيها أرسخ وأوضح في القرآن مما هو عليه في الهدي النبوي الشريف الا وهي وجوب امتلاك القدرة على اتقان قواعد الاشتباك مع الحياة والتي بموجبه يمتلك الجيل المسلم اهلية الاستخلاف في الأرض وقدرة الكفاية على استعمارها، وهنا سيتلاحم النسقان نسق التربية على القيم الجمالية التي تتقبل التنوع والوان الحياة وترى فيها تنوع اثراء لا تنوع تناقض، ونسق امتلاك فقه المقاصد الذي يعتبر حجر الزاوية لقدرة الجيل المسلم على استصدار الاحكام وتنزيلها على ارض الواقع بصيغة ناجحة ومقبولة ومضبوطة مع ايقاع الحياة العصرية كما يفعل ربان السفينة إذ ينشر أشرعته ويكفها بحسب الظروف ويوجه سفينته الى بر الامان ويتقن فنون المناورة ويمنع التصدع في الصف المتلاحم خلفه لانه صفٌ تربى على قيم الجمال وفقه المقاصد فهو جيل مرنٌ حيٌّ لا يغطُّ مختنقاً تحت وطأةِ الأزمات والتقلبات التي هي سمة العقود القادمة وهي سنن كونية لا بد من قرائتها قراءة صحيحة ونعمل وفقها لا ضدها كما فعلنا مراراً وكانت حصيلتنا ما نحن عليه اليوم، نحتاج جيلاً مرناً وقوياً في آنٍ واحد، ويجب ان تنسجم انساق التربية الاخرى مع هذين النسقين المهمين في المرحلة القادمة ولا تناقض.
-       تتبع هذه الورقة ورقة أخرى سأقدم فيها شرحاً عن القيم الجمالية المتاحة وتبريرات وجوب الاعتناء بها وكذلك تأثير التربية على فقه المقاصد في امتلاكنا لجيلٍ دعوي وسياسي في المراحل القادمة. 

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا