مزالق الموهوبين

 عمار وجيه
 سياسي وكاتب


عبر التاريخ كان ثمة رجال ونساء، أحدهم ربما يزن ألفاً من غيرهم، شجاعةً وبأساً، أو همةً وإقداماً، أو ذكاءً وفطنةً، أو سخاءً، أو عطفاً ومغفرةً، أو براعةً في حل المشاكل أو قيادة الناس، أو قدرةً فائقةً في الإقناع أو الإعلام.

الموهوبون يأسرون قلوب الناس وقد يتحكمون في أفكارهم. إلا إن الباب الذي يؤتى من قبله الموهوب هو العجب المفضي إلى الغرور ثم الكبر (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ. أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ) مالم يستدرك الموهوب بأن يستدرك بما بعدها (إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ). ولئن كان التواضع والاعتراف بالنطفة المذرة صعباً على عموم الناس فإنه أشد صعوبة على الموهوبين الذين خطفوا الأضواء وخطفتهم الأضواء. وكما هم موهوبون في امتلاك قلوب عشاقهم، فإنهم ليسوا أقل موهبة في تبرير هفواتهم وزلاتهم حين تقع. بل ثمة من يزين لهم من صيادي المواهب بحجة أن (الزهو) من مستلزمات العمل!

الشائع أن الناس يفرغون جامّ غضبهم على الفنانين والراقصين والمطربين باعتبار أنهم يتجاوزون العرف أو ينتهكون الحرمة، ولكن قد يكون أولئك أقل ضرراً من ذوي مواهب أخرى، فمن وهب الجرأة والجسارة وحرم الرشاد قد لا يتورع عن القتل بحق وبغيره. ومن وهب المبادرة في قيادة الناس من غير تؤدة ليس بعيداً أن يصدر قرارات جائرة مستعجلة نتيجة فرط الثقة بالنفس. وقد يكون في ما يقرر إزهاق أنفس بريئة، أو مصادرة أموال محرمة، أو تهجير اقوام لا ذنب لهم أو إيقاد فتنة عمياء.

وكثيراً ما تتورط المؤسسات الرسمية أو غير الرسمية بارتجالات أفراد ملكوا قلب الرئيس وهيمنوا على أحاسيسه حتى لم يعد يرى فيهم الخلل او النقص. بعضهم يقدّم مشاريع يظنها ذات جدوى اقتصادية حتى إذا أنفقت عليها المؤسسة أو ربما اقترضت لتمولها تبين أنها غير مدروسة فتبوء بالفشل. وليت تلك المؤسسات تتعظ، بل تسوغ لذلك الموهوب وتبرر ثم بعد حين تكلفه بمشروع آخر قد يكون ذو طابع وجداني أو إنساني فيكرر الفشل. وبعد عقد أو عقدين يكتشفون أنه ليس سوى (مولد موجة) يصلح لتوليد الأفكار لا لإقرارها فضلاً عن إدارة ما ينتج عنها من مشاريع. وتندم إدارة المؤسسة لأن زعيمها الموهوب كفل مبدعها الموهوب! فقادا المؤسسة إلى الهاوية. وكما يقول المثل الشعبي (عصفور كفل زرزور واثنينهم طيارة).

الأمثلة أكثر من أن تحصى، فكم من موهوب ورط منظمته بتقييم الرجال جرحاً وتعديلاً ثم تبين انه يزن الناس وفق عواطفه! أو دفع الإدارة إلى التغيير دفعاً من دون أن يهيئ أسباب التغيير، أو العكس، أي إنه يزين لهم مقاومة التغيير بزعم أنهم الآباء المؤسسون وأن كل ما سيأتي بعدهم غثاء ثم تتخلف المنظمة ويتأخر الركب فيُسبَق.

ومما يقي من تلك المزالق، الوعي المسبق والتربية المتواصلة والتذكير الدائم، فمن أمن العجب لم يتعداه إلى الغرور ولا الكِبْر. وإلا فإن المسكين سيُدفع ليتسور اسوار (اللارجعة) وهي أخطر مرحلة لأنه يظن أن ما بعد السور جبلاً فإذا هو وادٍ سحيق. والمؤلم أنه ليس كل انواع التكبر ظاهرة للعيان، فقد يخفي الألمعي غروراً بين جنبات تواضعه المزيف.

مطلوب من كل تجمع بشري، سواء منظمات المجتمع المدني أو المؤسسات الحكومية أن تتبنى ثقافة الاختبار والمراجعة الدورية وتضع حدوداً للحريات، ليس كبتاً ولا طمساً للمواهب وإنما ضبطاً للإيقاع وتأطيراً للإبداع كي يتحول إلى مشاريع نافعة.

سوف يتذمر من يتذمر، ويتملص من يتملص ممن لا يعجبه العجب، لكن سيكون الفرق واضحاً حين تكون المؤسسة راقية، وسيحكم أغلب الناس أن الفشل فيه لا في المؤسسة. وأكبر دليل أن من يستقيل من قناة إعلامية عريقة مثل BBC  لن يقال إن القناة فاشلة حتى لو أخطات في الاجتهاد، لكن ذلك سيقال لو حدث في قناة عراقية محلية مثلاً، بل ربما يسخر الناس منهم إذ فرطوا بنجم من نجوم الإعلام. لماذا؟ لان الغالب على تلك القنوات الارتجال والافتقار إلى المؤسسية.


الموهبة نعمة ربانية وطاقة دفاقة وعطاء كبير للأمة حين تحاط ويتم رعايتها بشكل صحيح، وقد تكون وبالاً إن تركنا صاحبها أو حاربناه ليتحول إلى فرس جموح سرعان ما يهيم في البراري. 

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا