النخبة الواعية


د. وليد البياتي
كاتب وباحث


ان عالمية هذا الدين، وصلاحه لكل زمان ومكان، ولكافة الشعوب والامم، على اختلاف ثقافاتهم واذواقهم ومستوياتهم الاقتصادية والمعيشية، وتباين مواردهم وبيئاتهم، يوجب المتصدي لتمثيله - بعد الالتزام به - الاتصاف باعلى درجات السبق والالمعية، ليحسن التبليغ، ويحفز على الاقتناع والاقتداء.
ان تطور فلسفة ومفاهيم خلافة الارض، من خلال:  الاعمار والصراع، اللذان يشكلان اعمدة اساسية للوجود البشري على الارض، لا تلزمنا بالتوافق معها والبقاء في ركبها فحسب، وانما بالسبق والتفوق ايضا، سيما ونحن مكلفون  بالرسالة المهندسة لافضل اعمار  ولأفضل تجاوز للصراعات والانتصار فيها، انها رسالة الخالق، الا يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير.
لذلك نرى من السذاجة التصدي بسطحية في طرح نظرتنا للحياة، ومن المعيب تخلفنا ونحن ندعي القيادة والريادة.
ان غيابنا عن حقيقة ما يجري حولنا، بل علينا، سوف لن يوصلنا ابدا الى مصافي المجتمعات من حولنا، فضلنا عن السبق والتصدر.
فلابد من اتّصاف المتصدّين الحقيقين لتطوير وتوجيه المجتمعات من وعي حقيقي بها، وبالنظم التي تسيرها، بقوانين السببية التي تنصاع لها، ورصد العوامل التي تتأثر وتؤثر في توجيهها،
لقد توسعت العلوم والمعارف سعة كبيرة جدا وصعبت الاحاطة بجوانبها، فقد تعمقت الاختصاصات وبلغت من الدقة وتباين المضامين شأوىً بعيدا، فانتشر التفرع، والتفرغ لدقائقها في المجال الواحد، وربما في جانب من ذلك المجال.
لقد غادرت المجتمعات منذ عقود فكرة القيادة المنفردة للشخصيات الجهابذة الموسوعيون، وتخلت عن فكرة هيمنة العلماء الفطاحلة باشخاصهم وتصدرهم المطلق لكافة العلوم والفنون والثقافات.
إن تداخل المعارف مع بعضها، وتشابك متبنياتها الفكرية والمعلوماتية ومتعلقاتها العملية، وتساوق تنفيذ اجرائاتها وخطواتها مع بعضها البعض، وافتقار مدخلات بعضها الى مخرجات بعضها الاخر، حدى بالعاملين على التطوير المعرفي وفلسفة البحث والقيم الفكرية بالتوجه نحو المنظومات التكاملية، واساليب التنفيذ المتوازي والمتزامن،  وتبني الصيغ المؤسساتية، والتواصل الشمولي، ونظريات التوزيع والتخزين المستقلة، والاساليب الاحصائية والبرمجية، وتوفير الطرائق والبدائل والفرضيات غير المعهودة، وادارات الازمات والطوارئ.. الخ.
ان عوالم المعرفة الضرورية للتوجيه الحقيقي والارشاد المنتج لن تزاحم ولن تقصى من قبل اشخاص يتسلحون بمجرد مشاعر هائجة وعواطف فوضوية ومعرفة تلقينية بالسير والمغازي ومعلومات متاحة عن اوليات الدين، والتي تشكل بمجملها حلقة واحدة من حلقات ضرورية كثيرة لتوجه حياة المجتمعات، وتصدر معارفها المتسارعة.
اننا نقترح ابتداء قيام نخبة واعية من المشفقين، بمراجعة حال الأمة وقصورها في وعيها، مراجعة واقعية معمقة، تبحث تطور الاعمار والصراع، في الارض، وتدرس طبيعة المجتمعات والأساليب الجمعية التكاملية، وتتقصى اسباب تخلفنا وجمودنا الفكري، وتتأنى في تشخيص نقصنا المعرفي وتبليغنا الرسالي، وتشخص الخلل دون تسرع، ولا مجاملة أو انحياز، وتتابع تنامي البدع الفكرية والهواجس التنظيمية الخفية التي تضفي قدسية على  المفاهيم والصيغ والاساليب والاليات التي ليست من اصل الدين في شيئ والتي تكاد تخفى على اللبيب غير المدقق، فتكلب وتأسر وتجمد وتحجر المجتمع في الماضي البعيد والقريب.
اقول، علينا ادراك أهمية نظريات ونظم المعرفة واساليب قيادة المجتمعات، والاعتراف بضرورة التخصصات.
 علينا اعادة النظر في مفاهيمنا تجاه مفردات الحياة وقيادة الحضارة، وتقييم تعاملنا مع ما نحمله من رسالة ومن فهم صحيح للدين، وعالميته.
فإن كان الدعاة يمثلون الواجهة الحقيقية للدين، الذي هو دليل الحياة على الارض، فلا بد لهم من حيازة ادوات ذلك التمثيل وتلك الواجهة، والا كانوا دعاة جهلة، يتورطون بإضلال الناس، واستغفالهم بالعبث نحو المجهول، وتمكين منهج الصراع والفساد وسفك الدماء.
فلابد للدعاة من حنكة في ادارة المعرفة، وادارة الحياة، وادارة المجتمعات، وادارة النظم، لابد لهم من ريادة في التخصصات.
إن بامكان كل رائد متخصص ان ادرك مسؤوليته ودوره أن يكون داعية من موقعه، افلا يحق لنا ان نطلق على القائد الفذ في تخصصه خالد بن الوليد صفة الداعية الى الله، اليس التجار المسلمون الذين ادخلوا شعوبا باكملها في الاسلام بخلقهم وتعاملهم يعدون دعاة، اليس القضاة اللذين يضرب بعدلهم المثل واورثوا لنا قصصهم رائعة يعدون دعاة، اليس العلماء والاطباء، وغيرعم كثير، دعاة، متخصصون، صنعوا الحضارة، ومكنونا من قيادة الحياة والمجتمعات.
اين دعاتنا المتخصصون في مجالاتهم الحياتية من قيادة الحياة اليوم..؟!
علينا مراجعة فهمنا للحياة وقيادة المجتمعات وحمل رسالة الدين، وعلينا عدم الاكتفاء في مراجعاتنا بانصاف الحلول، وعدم التراجع عن تشخيص الخلل في منتصف الطريق، بدعاوى مختلفة من حساسية المرحلة والحاجات المتسارعة ووو...
فانصاف الحلول والعلاج لن تتيح لنا التصدر ابدا، ولن تمكننا من السبق للارشاد والتوجيه، لن تمكننا من القيادة أو الإمامة.
إننا بحاجة الى الوعي في التعامل مع الحياة، للدخول الى عالم المعرفة الحقيقي، لفهم الفلسفات، والنظريات، والقوانين، والنظم، والإجراءات، والاساليب، التى اصبحت مهيمنة على الشعوب.
اننا نحتاج الى المؤسساتية في التفكير، والأداء.
فنحن ان اردنا ولوج عالم المؤسساتية، وجب علينا التفكير بمؤسساتية، وتجاوز الاكتفاء بالتعامل مع الخدمات المؤسساتية من منطلق فردي قاصر.
فالذي يعاني من مرض، ويفكر أن يذهب الى مؤسسة صحية لتلقي العلاج، لا يعد في الحقيقة منتهجا نهجا مؤسساتيا رصينا، فهو لن يعدوا كونه منتفعا من الخدمات المؤسساتية، دون ان يؤثر في ذلك النظام المؤسسي الصحي ولا إدارتها، فضلا عن قيادتها وتشريع قواعدها.
وكذا الذي يطور ادائه في التواصل مع المجتمع، فينشأ لنفسه صفحة تواصل اجتماعي، يعد مستخدما لنظام التواصل، دون أن يؤثر فيه، فيبقى حبيس نتاج الغير وقوانينه وموافقاته ومنافعه، فهو لن يستطيع ان يقود من موقعه، لانه مقاد تابع، ولن يستطيع حتى ان يتمرد قيد شعرة على توجيهات وتوجهات منشىئ المؤسسة وواضع نظامها وفارض إجراءاتها.
انه في الحقيقة منتفع، باسلوب فردي، من عمل جمعي مؤسساتي، لا غير!!.
ان الحديث عن التوجيه التربوي المتخصص، والتوجيه التربوي المؤسساتي، متشعب ومهم، ومخطأ من يظن ان المتخصص يتمكن من ضبط النجاح إن عمل منفردا، دون مؤسسات تكاملية تتبناه، موطئةً وراعية وداعمة وساندة ومطورة ومتابعة.. الخ.
ولنا وقفة قادمة.. بإذن الله.



شارك الموضوع

إقرأ أيضًا