المنظور التكاملي للتاريخ


عامر ممدوح
باحث في التاريخ


تتطور الدراسات التاريخية يوماً بعد آخر ، وتتنامى مفرداتها ، ومصطلحاتها ، وتتشعب مناحي قراءاتها ، بما يليق وهذا الفرع المعرفي المهم الذي يختصر بحركته الحياة .
ولعل جانباً أساسياً مما حصل فيه هذا التطور ــ وهو الذي يهمنا  ـ كيفية النظر إلى التاريخ ، وهو ما يمنحنا مفاتيح تفسير أحداثه وفهمها بالتالي .
ظل التاريخ لأعوام وعقود طويلة ، ينظر إليه على إنه ( الحكاية ) ، والتي يتم تبسيطها وتسطيحها إلى درجة تعليل معركة فاصلة أو سقوط دولة عظمى بأنه نتاج خلاف بين زوجين ، أو رغبة مستعرة لحاكم مصاب بالسادية ! ، دون النظر إلى الأجواء المحيطة، والعوامل المساعدة ، والقوى المؤثرة .
ولكن ومع مرور الوقت ، ومع تطور العلوم والمعارف بدرجة كبيرة ، لم يعد ذلك مقبولاً ، ولم يكن بالإمكان بقاء ( المؤرخ ) حكواتياً يتصدر المجالس وقت السمر ليقص للناس قصصاً وحكايات ( ممزوجة بأساطير ) تبهر الحضور .
إن التعامل مع التاريخ بنظرة تكاملية  شمولية بات منهجٌ لا بد منه ، وهو المنهج الذي ينظم تسلسل الأحداث ضمن محورين ( خاص ) و( عام ) ، يحافظ على خصوصيتها وهويتها دون إغفال محيطها العالمي الأهم ، إذ لم تظهر دولة ، ولا أمة لتعيش بمعزل عما يحيط بها وتحيط به ، ولم تكن أحداث سنواتها سواء كانت قصيرة أم طويلة ، إلا نتاج تأثر وتأثير بشكل أو بآخر .
وفي ظل هذا المنظور ، توضع امتنا الإسلامية ( قديماً وحديثاً ) في موقعها ، وتفسر أحداثها وفق حركة التاريخ العامة والخاصة ، وهو منهج فضلاً عن تطابقه مع غاية التاريخ الأساسية ، يخلص وقائعه وسنواته من الحكايات والأساطير والخرافات ، ويمنحها مكانتها اللائقة بها .
لدينا نموذجين من المهم الإشارة إليهما ، أولهما ما كتبه الأستاذ الكبير منير الغضبان رحمه الله في ( المسيرة الإسلامية للتاريخ ) والتي تتبع فيها تاريخ الرسالات والأنبياء ، فمنح التاريخ صبغته الإسلامية منذ سنوات التكوين الأولى ، وعمل على تحقيق التمايز المبكر بينه وبين الطابع ( الجاهلي ) للأمم الباقية ، فجاءت المسيرة الإسلامية متكاملة ، ومترابطة ، وتصل إحداها الأخرى .
وهناك نموذج لا زال لم يلقَ الاهتمام المنشود على الرغم من مرور سنوات طويلة على كتابته وطباعته ، وهو كتاب ( الإسلام وحركة التاريخ ) للكاتب أنور الجندي رحمه الله ، والذي قدم لنا الصورة التكاملية لتاريخ العالم ، وبضمنه تاريخنا الإسلامي ، وعمد إلى تبيان أحداث تاريخنا بين بيئتها العالمية ، مما جعل تفسير الكثير من حوادث السقوط والتميز مفهوماً ، وأبرز التأثيرات الداخلية والخارجية ومقدارها ، لا بل وأظهر الإسهام الحضاري الإسلامي بين الأمم الأخرى بصورته الزاهية .
ولدينا كذلك عينة مهمة ممكن التأسيس عليها لمنح نماذج أخرى مثلاً ، فقد شهد تاريخنا الإسلامي ومنذ قيام الخلافة العباسية ( 132 هـ ) على أنقاض الأموية ، تعدد الكيانات السياسية ، بل وصل الحال ، أن هناك في وقت واحد ثلاث خلفاء (عباسي في بغداد ، وفاطمي في القاهرة ، وأموي في الأندلس) ناهيك عن الدويلات المتفرعة من (أدارسة وأغالبة ومرابطين وموحدين) .
فنحن لو قرأنا تاريخ المنطقة الإسلامية من الزاوية السياسية لظهرت لنا الصورة المجزأة ، المتصارعة في بعض الأحيان ، تلك التي تغلب بعضها بعضاً ، وتتقاطع مصالحها ، وتتضارب دون توقف .
ولكن يمكن القول إن هناك نظرة أخرى أكثر شمولية ، يمكن دراستها تحت عنوان (انتشار الإسلام ) توقفنا على إن هذا الخلاف السياسي لم يكن مدعاة لبناء حواجز بوجه الدعوة ، أو الدين ، الذي تعدد فهمه ، ولكن لم يختلف في كثير من الأحيان حول جوهره ، وظل يمارس الكثير من الحكام مهمة شرعية يقوم بها بكل شغف ورغبة واندفاع ، تتمثل بإيصال الدعوة الإسلامية إلى أبعد مكان .
ولعل من الطريف ذكر إن طلبة العلم كانوا يقضون أعواماً تصل إلى 12 أو 15 عامًا في بغداد حاضرة الخلافة الإسلامية ، وهم من الأندلس التي تقطعت العلاقات السياسية فيما بينها وبين الخلافة العباسية لقرون ، والعكس صحيح .
لا بل كان الطلبة يمرون بكل البلدان ذهاباً وإياباً دون حرج أو حدود مانعة ، فتلك البلدان بقيت تحافظ على صفتها الإسلامية أولاً ، ثم يحددها الانتماء السياسي ثانياً ، فظل الإطار الإسلامي هو الغالب في باب العلاقات العلمية والثقافية والاقتصادية ، والرسائل والأطاريح العلمية كثيرة جداً في هذا الباب .
وثمة جانب مهم أشار إليه الدكتور الكبير عماد الدين خليل رعاه الله ، حين أشار إلى إن التاريخ الإسلامي يتميز بالاستمرارية ، فمتى ما انتهت تجربة ، وانكسرت دولة ، تجد في نفس الإطار الزمني تنبعث أخرى ، والخلافة العثمانية خير مثال .
وأخيراً .. تمتد هذه النظرة لتصل إلى الجانب الحضاري من التاريخ الإسلامي ، فتدرس الحضارة اليوم على إنها كيان لوحدها ، تتميز بسمات عامة ، وخصائص مميزة ، تجمع تحتها أمثلة عدة ، من أماكن مختلفة ، لكن ما يجمعها ( الإسلامية ) ، وهو ما يمنح النتاجات التي تتعامل معها بذلك المنظور العمق ، والقيمة ، والأهمية .




شارك الموضوع

إقرأ أيضًا