الحصون المهجورة



د. صباح الكبيسي
أكاديمي وباحث
عندما كنا صغارا نصلي في المسجد كنا لا نفهم ولا نعرف كثيرا مما كان يفعله المصلون من هذه الأمور التي كنت لا أفقهها ، عندما كان يسلم الإمام عن يمينه وشماله من الصلاة كان المؤذن الذي أذن للصلاة وأقامها يبدأ بقراءة الاذكار التي لم أكن احفظ منها شيئا ، فمثلا كان يصيح بأعلى صوته (الله لا إله الا هو الحي القيوم) ثم يسكت ويتمتم في داخله هو وجميع المصلين ثم بعد أن يكملوا ينفخوا في أكفهم ويمسحوا وجوههم وصدورهم بأيديهم ، وكنت في كثير من الاحيان افعل الشيء نفسه بدون أن افهم أو أفقه شيئا كان الامر بالنسبة لي غريبا وعجيبا كان مفعوله علي كالسحر او كالحلم الجميل الذي لا تريده ان ينتهي .
وعندما كبرت بدأت افهم ماذا يفعل المصلون ادبار الصلوات وماهي الاذكار التي يقرأونها ولماذا يمسحون بها وجوههم وأجسامهم وما أثر ذلك عليهم في حياتهم ومعادهم .
نعم انها الاذكار ، اذكار الصباح والمساء واذكار ادبار الصلوات واذكار الخروج والدخول أذكار لكل زمان ولكل مكان أذكار تستوعب المكان والزمان حتى انها لا تترك منهما شيئا ابدا . وفي هذا العجالة لا اريد ان اتكلم  عن الاذكار انواعها وازمانها واعدادها ولاعن اجورها وحسناتها وفضلها .
اريد ان اجري مداد قلمي في تذكرة لي ولمن يقرأ كلماتي (لعله يتذكر أو يخشى) اريد ان انفض غبار الهجران والبعد عن حصون مهجورة وقلاع متروكة وجدر فارغة ،تركها ساكنوها وغادروها الى فلاة بلا زرع تتناوشهم ذئاب الانس والجن لا يجدون ملجأ ولا فراراً
اريد ان اسلط الضوء على جانب ٍ عظيم الخطر من جوانب الذكر الا وهو التحصين بالاذكار والادعية الشرعية القرآنية والنبوية والتدرع بها وخوض غمار هذه الحياة ونحن شاكين سلاح الاذكار متهيئين للأعداء متحصنين بحصن الله العظيم ..
ان كثيراً من الناس لا يقرأ الاذكار واذا قرأها تلاها بقلب لاهٍ ساهٍ لا يفقهها بل الكثير يتلو الاذكار يرجو فضلها ولا ينظر اليها انها من اعظم ما تحصن به الانسان واحتمى به من شرور اعدائه من الانس والجن ومن الامراض والاسقام وانواع الهموم والغموم وضيق الصدر والحسرة والعين والحسد.
فتراه يخرج من بيته كساع الى الهيجا بغير سلاح مهيض الجناح متهدم الاركان تحيط به الهموم من كل جانب كإحاطة السوار بالمعصم يمشي يتلفت خائفا يترقب
الا يعلم ان الاذكار والادعية تحفظ المسلم من الضر والأذى بجميع أنواعه بأذن الله تعالى ..
قال تعالى (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) الرعد:11
روى عكرمة عن ابن عباس قال: ( يحفظونه من أمر الله ) ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه فإذا جاء قدر الله خلوا عنه
وقال مجاهد : ما من عبد الا وله ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والانس والهوام فما منها شيء يأتيه يريده الا قال له الملك : وراك ، الا شيء يأذن الله فيه فيصيبه (تفسير ابن كثير 4/ 438)
الا يعلم المسلم ان الله خالقه هو خالق هذا الكون ومدبره ولا يكون شيء الا بإذنه ومشيئته ولا يتعوذ الا به وبأسمائه وكلماته قال تعالى : (قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون) الانبياء:42
وفي الحديث القدسي الذي يرويه الامام احمد : " من اعظم مني جودا وكرما وانا الجواد الكريم عبيدي يبيتون يبادرونني بالعظائم وانا أكلؤهم في مضاجعهم واحرسهم في فرشهم".
يكفي الاذكار عزا وعظمة انها تربطك بالخالق المدبر {أذكروني أذكركم } ويكفيها أثرا في الانسان عقلا وقلبا وجسدا قول النبي (صلى الله عليه وسلم) : " مثل الذي يذكر ربه والذي لايذكر ربه مثل الحي والميت "  رواه البخاري
وأعظم تشبيه للأذكار بالحصون والقلاع في الحديث الطويل الذي يرويه سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) عن نبي الله يحيى بن زكريا ونبي الله عيسى ابن مريم (صلى الله عليهما وسلم ) : {وأمركم أن تذكروا الله تعالى فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى أذا أتى الى حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان ألا بذكر الله }  رواه الأمام أحمد والترمذي والحاكم  
لذ لك كانت الاذكار والدعوات والتعوذ بالله وبأسمائه وصفاته وكلماته من أعظم الحصون المانعة من الاعداء والامراض والاسقام والهوام ..
لكن السؤال أنه بالرغم من أن حفظ هذه الاذكار وقراءتها ميسرة للصغير والكبير فهل يا ترى انها تقرأ في الصباح والمساء مع استشعار عظمتها وفائدتها المرجوة .. 
أليس في قراءتها التمسك بأعظم أسباب الحفظ من الخالق العظيم ؟؟
أليس في هذه الاذكار من الاسرار والغيب وتأثيرها في المخلوقات حيها وجمادها ما لا يعلمه الا الله الخالق المدبر ؟؟
أنظر في دعاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الذي كان يعلمه لأصحابه : "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ".
ما أعظم هذا الذكر والدعاء وما أعظم اسراره وما أعظم أثاره ، فبأي كلمات انت تتعوذ والله عز وجل يقول : ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا )  الكهف:109
ويقول عز من قائل : ( ولو أنما في الارض من شجرة اقلام والبحر يمده من بعده سبعة ابحر مانفدت كلمات الله  أن الله عزيز حكيم )  لقمان:27
هل فقهنا بأي كلمات نتعوذ؟؟ 
كلمات لها مبتدأ وليس لها منتهى أنها كلمات الله كلمات التوراة والإنجيل والزبور والقرآن العظيم .
ولو نظرنا لدعاء الاستشفاء ( أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر ) 
الله أكبر انت تتحصن بعزة الله العزيز وبقدرته اللامتناهيه وسلطانه على كل شيء في هذا الكون .
بل الأعجب في دعاء الهم والغم :( اللهم أني أسألك بكل أسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو أستأثرت به في علم الغيب عندك ) .
يعلمنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن نسأل الله ونرجوه ونتوسل إليه بأسمائه لكن بأي أسماء ؟
أسماء هي من الغيب والأسرار التي لا نعرفها ولا نعرف عظمتها ولا نعرف تأثيرها علينا وعلى كل ما حولنا أنها أسماء قد تكون أنزلت في الكتب السابقة للقرآن أو أسماء علمها الله عز وجل لمخلوقين لا نعرفهم أو أسماء تسمى بها الرب سبحانه وتعالى وأختص نفسه بها وبمعانيها وأسرارها .
يكفي ان تعلم ان إسماً واحداً له من التأثير ما لا يعلم حده وحدوده الا الله ، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم ) : ( كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر - أقطع - أجذم )   رواه أبن حبان  
فكيف إذا دعوت الله وتعوذته بأسمائه وصفاته وكلماته فما تأثير ذاك عليك وعلى ما حولك في عالمي الغيب والشهادة وعلى أنواع الشرور صغيرها وكبيرها وعلى الفتن ما ظهر منها وما بطن .
يقول أبن القيم في تعليقه على دعاء : "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق "  :"أي من كل شر في اي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره إنسيا او جنيا أو هامة أو دابة أو ريحا أو صاعقة او اي نوع من أنواع البلاء في الدنيا والاخرة."
إذا النتيجة العظمى التي لا محيص عنها ولا حيدة  ولا مهرب "أنه لا يستطيع أن يعصمك من الشر الذي لا يقدر عليه ألا الله سوى الله   ."
والعجيب في هذه الحصون والقلاع اقصد الاذكار والأدعية أن لها تأثير عجيب في منع وصد أذى الاعداء من الانس والجن ، ثم لو أن الأذى وقع فأنه لا يأثر أثرا بينا فهي تدفعه وتخففه وكذلك انها تزيل آثار ذلك الأذى والاعتداء.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن العين وعن تأثير الاذكار والتحصن بها : "وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحو المحسود والمعين تصيبه تارة وتخطئه تارة فأن صادفته مكشوفا لا وقاية عليه أثرت عليه ولابد وأن صادفته شاكي السلاح لا منفذ فيه للسهام لم تأثر فيه وربما ردت السهام على صاحبها وهذا بمثابة الرمي الحسي "   زاد المعاد 4/68
ويقول ايضآ : " وأعلم أن الادوية الطبيعية الألهية تنفع من الداء بعد حصوله وتمنع من وقوعه وان وقع لم يقع وقوعاً مضرا وان كان مؤذيا ، والادوية الطبيعية أنما تنفع بعد حصول الداء ،فالتعوذات والاذكار أما ان تمنع وقوع هذه الاسباب واما ان تحول بينها وبين كمال تأثيرها بحسب كمال التعوذ وقوته وضعفه فالرقي والعوذ تستعمل لحفظ الصحة وإزالة المرض "  زاد المعاد 4/149
السلاح بضاربه ...
وتبقى هنا قضية مهمه جدا فقد يشكوا الكثير أنه يتلو هذه الاذكار ويتعوذ بالمأثور من قرآن وسنة ثم لا يجد أثاراً عظيمة مما يتلو ويقرأ !! 
فجواب ذلك أن المؤثر النافع هو الذكر على الدوام مع حضور القلب فأما الذكر باللسان والقلب لاهٍ غافلٍ فهو قليل الجدوى كما قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : "وأعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافلٍ لاهٍ " رواه الترمذي والحاكم وابن حبان   .
يقول الإمام أبن القيم : " وكل قول رتب عليه الشارع ما رتب عليه من الثواب أنما هو القول التام كقوله (صلى الله عليه وسلم ) : "من قال في يوم : سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه أو غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر
وليس هذا مرتب على قول اللسان فقط ، نعم من قالها بلسانه غافلاً عن معناها معرضاً عن تدبرها ولم يواطئ قلبه لسانه ولا عرف قدرها وحقيقتها ، راجيا مع ذلك ثوابها حطت من خطاياه بحسب ما في قلبه ، فان الاعمال لا تتفاضل بصورها وعددها إنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب فتكون صورة العملين واحدة وبينهما في التفاضل كما بين السماء والارض ، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحد وما بين صلاتهما كما بين السماء والارض )تهذيب مدارج السالكين ص 188
ويقول رحمه الله تعالى : ( ومن جرب هذه الدعوات والعوذ عرف مقدار منفعتها وشدة الحاجة اليها وهي تمنع وصول أثر العين وتدفعه بعد وصوله بحسب قوة إيمان قائلها وقوة نفسه وأستعداده وقوة توكله وثبات قلبه فأنها سلاح والسلاح بضاربه )  (زاد المعاد 170/4)
لكل ما تقدم اقول لنعد بصدق لحصوننا المهجورة وقلاعنا المتروكة ولنزل عنها تراب الزمن الماضي ولنعمرها بترانيمنا وتراتيلنا واذكارنا ولنحقق فينا قول نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) : " احفظ الله يحفظك  ."
ولنتدبر بكل جوارحنا قول الامام ابن القيم : ( حاجة العبد للمعوذتين أشد من حاجته للطعام والشراب واللباس)  .


شارك الموضوع

إقرأ أيضًا

1 التعليقات:

التعليقات
1 يناير 2016 في 10:12 ص حذف

جزاك الله خير ونفع بك مقال رائع

رد
avatar