فقه المسؤولية


د. عبد الستار عبد الجبار
عضو الهيئة العليا للمجمع الفقهي العراقي

 نحن اليوم بحاجة ماسة للتأصيل لموضوعات فقه الأمة في مقابل الفقه الفردي الذي شاع في كتابات علمائنا الأفاضل، ومن مباحث فقه الأمة "فقه المسؤولية" الذي يهدف إلى إنشاء روح الشعور بالمسؤولية اتجاه الدين والأمة والإنسانية، فالكلمة مسؤولية، والسكوت عن قول كلمة الحق هروب من المسؤولية، والمواقف الشجاعة مسؤولية والانسحاب والسلبية هروب من المسؤولية.
ومعنى فقه المسؤولية: أن المسلم المكلف مسؤول عن كل شيء جعل الشرع له سلطاناً عليه أو قدرة على التصرف فيه بأي وجه من الوجوه؛ سواء كانت مسؤولية شخصية, أم مسؤولية جماعية أم مشتركة بين الفرد والجماعة.
وقد وردت في التأسيس لهذا الفقه نصوص كثيرة منها }وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً{ الإسراء36. ففي هذه الآية نهي عن اتباع كل قول وكل عمل بغير علم مسبق ومعرفة بما يقول وما يعمل وإلا فصاحب الحواس السليمة والعقل السليم يتحمل مسؤولية كل ذلك، لأن هذه الحواس الظاهرة والباطنة ما خلقها الله إلا ليعمل بها المكلف ويوظفها في حياته لمصلحته ومصلحة الأمة والدين، فالمسؤولية في تعطيلها عظيمة.
والمسؤولية ستكون في استعمال هذه الحواس أو عدم استعمالها؛ ثم في أي شيء استعملت في خير وطاعة أم في شر ومعصية.
وقوله }أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى{ القيامة36 فالإنسان لم يخلق عبثا ليترك سدى مهملا بلا هدف وغاية وبلا حساب وسؤال، بل هو مخلوق لحمل أمانة وتحمل مسؤولية، والاستفهام هنا للإنكار على من ظن العبث في الخلق وتهرب عن حمل المسؤولية.
وفي قوله I }فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ* عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ{ الحجر92-93 أقسم بنفسه أن يسأل جميع المكلفين ويحاسبهم عن أعمالهم ومدى انطباقها على ما طلبه منهم، وهذا جوهر فقه المسؤولية.
وما ورد في السنة  حول فقه المسؤولية كثير، منه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قال )كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مسؤول عن رَعِيَّتِهِ، الْإِمَامُ رَاعٍ ومسؤول عن رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ في أَهْلِهِ وهو مسؤول عن رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ في بَيْتِ زَوْجِهَا ومسؤولة عن رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ في مَالِ سَيِّدِهِ ومسؤول عن رَعِيَّتِهِ(([1]) والراعي بمعنى المسؤول عن الرعاية وعدم التضييع، ويدخل في الحديث كل من كان تحت نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته.
فالحاكم مسؤول ومسؤوليته رعاية الشريعة الإسلامية بإقامة الحدود، ورعاية الأمة وإقامة العدل في الحكم فيها ومحاربة الظلم والفساد.
والزوج مسؤول عن رعاية أهله وسياسته لأمرهم وإيصالهم حقوقهم.
والمرأة مسؤولة عن تدبير أمر البيت والأولاد والنصيحة للزوج في كل ذلك.
والخادم أو الأجير مسؤول عن حفظ ما تحت يده والقيام بما يجب عليه من خدمة وعمل.
ومن فقه المسؤولية موقف العلماء والرموز الدينية في الفتن واللحظات الحرجة في تأريخ الأمة، وتأريخنا مليء بمواقف علمائنا الفذة، ومنها موقف لإمامنا الأعظم سنستعرضه في هذه السطور.
ففي الحكم بالردة على الآخر المخالف نحتاج إلى إعمال العقل قبل إصدار أي حكم، فالمرتد هو من كان على دين حق ثمَّ تحول عنه إلى غيره، أما من ورث دينه من أهله ولم يتحول بنفسه فلا يعامل كمرتد لأنه لم يرتدَّ عما كان عليه، وهذا ما  فعله إمامنا الأعظم أبو حنيفة.
فقد حدَث أن مجموعة من أصحاب الفهوم الغالية (الخوارج) دخلوا الكوفة([2]) بقيادة "الضحاك بن قيس الشيباني" الحروري فأمر بقتل الرجال كلهم فخرج إليه الإمام وقال: أريد أن أكلمك، فقال: تكلم. قال: لم أمرت بقتل الرجال؟ قال: لأنهم مرتدون. فحاججه وقال: أكان دينهم غير ما هم عليه فارتدوا حتى صاروا إلى ما هم عليه؛ أم كان هذا دينهم؟
فانتبه الضحاك إلى ما يريد الإمام أن يقوله؛ وهو أنَّ المرتد من كان على دين حق ثمَّ تحول عنه إلى غيره، فقال للإمام: أعدْ ما قلتَ. فأعاد.. فقال الضحاك: أخطأنا. فغمدوا سيوفهم ونجا الناس([3]).
يا لها من فطنة أنقذت مدينة ورفعت السيف عن أعناق الأبرياء، وهي دليل على أهمية الحوار مع المخالف وعظيم نتائجه في حل المشكلات، فبالحوار أقنع الخصم المتعنت وأوقف بحر الدم.
 هذا إلى جانب شجاعة الإمام وجرأته ووقوفه في نصرة الحق وتحمل المسؤولية، إذ كان من الممكن أن يكون ثمنُ الوقفة رأسَه، وهذه حقيقة العالم الرباني، وهكذا هو دور العلماء الربانيين الذين يجمعون بين العلم العميق والمواقف الشجاعة التي تجسد العلم عملاً وسلوكاً، وهذا وأمثاله من المواقف البطولية هي التي رفعت منزلة إمامنا عند الأمة، وهذه المواقف هي التي تبقى بالأمةِ حاجة إليها في شخصية العلماء القدوات.
وحول الإعدامات التي يقوم بها بعض المفسدين بذريعة الردة وإقامة الحدود في هذا الزمن، لا بدَّ أن يعرف القتلة كما قال أبو حنيفة: أكان دينهم غير ما هم عليه فارتدوا حتى صاروا إلى ما هم عليه؛ أم كان هذا دينهم؟ فإذا كان هذا دينهم فلم تقتلونهم؟
وتأتي أهمية التذكير بفقه المسؤولية اليوم لبيان أهمية موقف حملة العلم الشرعي ولواء الدعوة من تقديم الفهم الصحيح والبيان المناسب للدين كي لا يختلط الحابل بالنابل ويهلك الصالح بالطالح.




[1])) رواه البخاري 1/304، بَاب الْجُمُعَةِ في الْقُرَى وَالْمُدُنِ، حديث رقم853، ومسلم 3/1459 حديث رقم 1829
([2]) وكان ذلك عام 127هـ حين ضعفت الدولة الأموية (انظر: الطبري، تأريخ الملوك والأمم 4/284).
([3]) القرشي، الجواهر المضية في طبقات الحنفية، 1/486.

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا