(القدوة)...مسارات ومنعطفات



د.امجد الجنابي
اكاديمي واعلامي

      كنتيجة لتدهور الاوضاع الامنية والسياسية والاقتصادية وللتراجع الواضح لدور المسجد والعاملين في حقل الدعوة لمسنا عزوفا كبيرا من الناس وانكفاءا على الذات ونبذ لمتابعة من يتقدم الصفوف ويتصدر في المواقف لان الثقة قد اهتزت والاحداث نحتت من رمزية الجميع مؤمنهم وفاسقهم... اسلاميهم وعلمانيهم..والا فقل لي بربك اين موقع (القدوة) اليوم؟ وكيف ينظر الناس لمن يخاطبهم ويقودهم؟
وللتعرف على ما كان من هذا المفهوم وللمراجعة السريعة كانت هذه الكلمات، وهي دعوة للعودة الى المعين الصافي الاول والسير على ما سار عليه الاولون واعادة نفض التراب عن (القدوات) فان لم نكن فعلى الاقل نقارب ونتشبه ..ونتشبث.
      كان الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وعلى رأسهم محمد  صلى الله عليه وسلم  على جانب عظيم من الحلم والتصبر، والعفو والشفقة على قومهم ودعائهم لهم بالهداية والغفران، وعذرهم في جناياتهم على أنفسهم بأنهم لا يعلمون، قال  صلى الله عليه وسلم : (اشتد غضب اللَّه على قوم فعلوا هذا برسول اللَّه  صلى الله عليه وسلم )، وهو حينئذ يشير إلى رباعيته،(اشتد غضب اللَّه على رجل يقتله رسول اللَّه  صلى الله عليه وسلم  في سبيل اللَّه  عز وجل ) وفي إصابة النبي  صلى الله عليه وسلم يوم أحد عزاء للدعاة فيما ينالهم في سبيل اللَّه من أذى في أجسامهم، أو اضطهاد لحرياتهم، أو قضاء على حياتهم، فالنبي  صلى الله عليه وسلم هو القدوة قد أوذي وصبر.
   هو القدوة في كل شيء صلى الله عليه وسلم ،والإِسوةُ كالقِدوة، والقدوة: هي الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره إن حسناً وإن قبحاً، وإن سارّاً وإن ضارّاً؛ ولهذا قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا} ، فوصفها بالحسنة، ويقال: فلان قُدوةٌ إذا كان يُقتدى به .
والأسوة أو القدوة نوعان: أسوة حسنة، وأسوة سيئة: فالأُسوة الحسنة الأسوة بالرسول  صلى الله عليه وسلم ، وأما الأسوة بغيره إذا خالفه فهي أسوة سيئة، كقول المشركين حين دعتهم الرسل للتأسي بهم {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} .
   وعلى القدوة ان يتطابق قوله مع فعله، اما من يتصدر ويطالب الناس بالاقتداء وهو متناقض في سلوكه ويختلف مقاله عن حاله فهو القدوة السيئة مهما كان علمه ومنصبه ومن هنا فقد حذر ابن القيم من اتباع علماء السوء والاقتداء بهم ففضحهم وبين عوارهم فقال:
(علماء السوء جلسوا على أبواب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فلما قالت أقوالهم للناس: هلموا، قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم، فلو كان ما يدعون إليه حقاً، كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلاّء، وفي الحقيقة قطّاع طرق).
نعم ...لقد سماهم (قطاع طرق) لانهم يقطعون على الناس طريقهم الى الله تعالى ويحرفونهم عن مساره الصحيح الى تفريعات ودروب جانبية.
كما إن مستويات الفهم للكلام عند الناس تتفاوت، ولكن الجميع يستوون أمام الرؤية بالعين المجردة، وذلك أيسر في إيصال المفاهيم التي يريد المتصدر إيصالها للناس المقتدين به، ومما يدل على ذلك أن البخاري بوّب باباً قال فيه:(باب الاقتداء بأفعال النبي  صلى الله عليه وسلم )، ثم ساق الحديث: (اتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتماً من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إني اتخذت خاتماً من ذهب) فنبذه وقال: (إني لن ألبسه أبداً)، فنبذ الناس خواتيمهم ، قال ابن بطّال: (فدلّ ذلك على أن الفعل أبلغ من القول) .
   ولهذا أمثلة كثيرة؛ فإنه خلع خاتمه فخلعوا خواتيمهم في هذه القصة، ونزع نعله في الصلاة حينما أخبره جبريل أن فيهما أذىً فنزعوا، ولَمّا أمرهم عام الحديبية بالتحلّل وتأخّروا عن المبادرة رجاء أن يأذن لهم في القتال وأن ينصروا فيكملوا عمرتهم، قالت له أم سلمة: اخرج إليهم واذبح واحلق ففعل فتابعوه مسرعين ، فدلّ ذلك كله على أهمية القدوة وعظيم مكانتها.
    ان الناس تنظر إلى المتصدر نظرة دقيقة دون أن يعلم أنه تحت رقابة مجهرية، فرب عمل يقوم به من المخالفات لا يلقي له بالاً يكون في نظرهم من الكبائر والموبقات؛ لأنهم يعدّونه قُدوة، وقد يراه الجاهل على عملٍ غير مشروع فيظن أنه على حق، ومعلوم أن المتصدر إذا كان عاملاً بما يدعو إليه كان ذلك أيسر في إيصال المفاهيم التي يريد إيصالها للناس المقتدين به؛ لأن كثيراً من الناس ينتفعون بالسيرة الحسنة أكثر مما ينتفعون بالأقوال، ولاسيما عامة الناس؛ ولهذا قال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحًا ... }  وقد ذم سبحانه من خالف قوله فعله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} ، {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ، وما أحسن ما قاله القائل:
يا أيها الرجل المعلِّم غيره ... هلاَّ لنفسك كان ذا التعليم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيِّها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما تقولُ ويُقتدى ... بالعلم منك وينفع التعليمُ
لا تنهَ عن خلقٍ وتأتي مثله ... عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيم

وهي عبارات ولفتات واضاءات تعيد نفض ما هنالك من تراث ونصوص في مفهوم (القدوة) عسى ان نتذكر ما درس منها في حياتنا ومن حولنا، وهي محاولة لتسليط الضوء على بقعة بعينها كانت في الامس القريب شغلنا الشاغل ونريد لها اليوم ان تعود الى الواجهة لتكون الخطط والدورات والدندنات حولها فبعسى ولعل والنوايا الصالحة تعود القدوات لتنتصب من جديد فيؤوب لها الناس ويستظلوا بظلال فكرها ويناصروا فعلها ومن وراءهم رب كريم وهو الهادي الى سواء السبيل.

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا