تغيير منظومة التفكير القيادي


)100%  كل 10(
د.امجد الجنابي
اكاديمي واعلامي

لعل العنوان غريب على معظم القراء، ولكني اطمئنهم بان المضمون لن يكون غريبا ابدا بل سيكون من الواضحات التي لا يحجبها شيء، ولتقريب الصورة اضرب المثال الاتي والذي تعايش معه اعداد كبيرة من الدارسين.
عندما تريد مؤسسة ما او جماعة ما او بلد ما ان يدفع بشباب ليتخصصوا بشكل دقيق في علم معين فان التخصص هذا لا يتعدى ال10 سنوات باي حال من الاحوال وهي كثيرة !
يدخل الطالب الى مرحلة البكالوريوس فيتخرج فيها بعد اربع سنوات في تخصص عام نسبيا ثم يدخل في المرحلة الثانية وهي الماجستير فيكمل فيها كحد اعلى 3 سنوات تقريبا ويكون التخصص اكثر تحديدا ودقة ثم تاتي مرحلة الدكتوراة ويقضي فيها 3 سنوات اخرى ليتخصص اكثر فاكثر وباتمامه لل10 سنوات يكون جاهزا لشغل منصب اي استاذ في الجامعة كان قد درسه في المراحل الثلاث ، ويمكن للجامعة حينها ان تستبدل كل الكادر بشباب تخرجوا للتو في تخصصات كثيرة لتستمر عجلة الحياة وتتجدد الدماء في الوسط الجامعي وهذا مطلب مسؤول عنه الكادر الاول ان يعطي ويبذل ويسعى لان يخلي ويفسح مكانه لمن تعب عليه طيلة عقد من السنين.
ضع هذا المثال نصب عينيك ثم اجمع معه ما سياتي من نصوص...
جاء في كتاب سراج الملوك لابي بكر المالكي (ت:520هـ):
 (...قلت: فبأي شيء يكون الزهد في الدنيا؟ قال: باليقين، واليقين بالبصر، والبصر بالعين، والعين بالفكر. ثم وقف الراهب فقال: خذها منا فلا أراك خلفي إلا متجرداً بفعل دون قول، فكان ذلك آخر العهد به. قلت: قد وصف الله الدنيا وأهلها بصفة أعم من هذه الصفة، فقال سبحانه وتعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (الحديد: 20(
والكفار هاهنا: الزراع، فكما أن الزرع يكون في أول نباته خضراً ناعماً اهتزت به الأرض بعد يبسها، فجاءت في العيون كأملح ما يكون، ثم يهيج فتراه مصفراً أي يكبر ويستوي فيجف ويحترق وينتكس أعلاه ويستغل سنبله، ثم يدرس فيكون حطاماً أي تبناً فيكون متكسراً متقطعاً. وهذا مثل ضربه الله تعالى لبني آدم إذ كانوا أطفالاً أول الولادة وفي حال الشبوبية كأحسن مرئي، يعجبون الآباء ويفتنون ذوي الأحلام والنهى، ثم يكبرون فيصيرون شيوخاً منكسة رؤوسهم مقوسة ظهورهم، قد ذهب حسنهم ونعومتهم وفني شبابهم وجمالهم، وذوت غضارتهم ونضارتهم، واستولى عليهم الهرم واليبس، ثم يموتون فيصيرون حطاماً في القبور كالتبن في الجرين. هذا بعدما وصفها بخمس صفات مذمومة: لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر.)...
وجاء في كتاب المنهج المسلوك في سياسة الملوك لجلال الدين العدوي الشافعي (ت:590هـ) : (وَقَالَ بعض الْعلمَاء من غرس الْعلم اجتنى النباهة وَمن غرس الزّهْد اجتنى الْعِزَّة وَمن غرس الْإِحْسَان اجتنى الْمحبَّة وَمن غرس الفكرة اجتنى الْحِكْمَة وَمن غرس الْوَقار اجتنى المهابة وَمن غرس المداراة اجتنى السَّلامَة وَمن غرس الْكبر اجتنى المقت وَمن غرس الْحِرْص اجتنى الذلة وَمن غرس الطمع اجتنى الخزي وَمن غرس الْحَسَد اجتنى الكمد)..
ثم تامل معي هذا النص الرائع والمصطلح المأخوذ منه (الزهد البارد)، جاء في كتاب (نصاب الاحتساب) لعمر الحنفي (ت:734هـ):
(وَمن مُوجبَات التَّعْزِير الزّهْد الْبَارِد وَفِي اليواقيت رُوِيَ أَن رجلا وجد تَمْرَة ملقاة فِي سوق الْمَدِينَة فِي زمن عمر بن الْخطاب فَأَخذهَا وَقَالَ من فقد هَذِه التمرة وَهُوَ يُكَرر كَلَامه ويعرفها وَيظْهر زهده وَمرَاده من هَذَا الْكَلَام إِظْهَار رزهده وورعه وديانته على النَّاس فَسمع عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ كَلَامه وَعرف مُرَاده فَقَالَ كل يَا بَارِد فَإِنَّهُ ورع بغضه الله تَعَالَى وضربه بِالدرةِ).
يتبين لنا مما سبق ان هناك اداب يجب ان تراعى عند توريث العلم والتربية والدعوة والاخلاق، وان هناك سنة لازمة لابن آدم مهما بلغ من عنفوان وشباب فهو الى ذبول وضعف وهوان ومنهم من يرد الى ارذل العمر، وهناك ما يسمى بـ (الزهد البارد) والذي اوضح ما يكون في تشبث المرء بمنصبه ومسؤوليته بعمله وفعله ولو نادى وادعى في الملأ بانه زاهد فيه!
ومن خلال المثال اعلاه والنصوص التي تلته ، ولتوضيح عنوان هذا المقال فانني اعمد الى ذكر فقرتين رئيستين:
الاولى : على المتصدرين للحركات والجماعات والمؤسسات والبلدان ان يراعوا ثلاث مسائل مهمة هي؛ اولا : المدة الزمنية على ان لا تزيد عن عشر سنوات ويتم استبدال كل المفاصل الرئيسة بنسبة 100% ، وثانيا: ان يمارسوا دورهم بفاعلية ونشاط وحماس ليورثوا ما تعلموه للجيل الجديد الذي يتربى ويتعلم تحت جناحهم ، وثالثها: ان يزهدوا زهدا حقيقيا وليس (باردا) بالمنصب والمسؤولية مهما علت ...فالامر اولا واخيرا لله عز وجل وهو مدبر الامور ويعلم ما في القلوب.
الفقرة الثانية: دعوا الشباب تحلم وترجلوا ايها الفرسان ...فمن خلقكم خلق غيركم ولو دامت الدنيا لاحد لما وصلت اليكم وان الدماء الجديدة لتفور في عروقها وتبحث عن منافذ وعروق فان لم تجد فسترتد على صاحبها وتمرضه وتنهكه وعندها سيصيح قصار النظر واصحاب الزهد البارد : انظروا الى مرضه وفتوره وضعفه ...ثم ينحازون ليأكلوا ما التقطوه من السوق في غرف مظلمة حيث لا عمر ولا درته المؤدبة ...
وهنا اقول ان معنى (100% كل 10) ان الحياة الحقيقية للمؤسسات حين يتغير كادرها في (المفاصل الرئيسة ) بنسبة 100% كل عشر سنوات.


شارك الموضوع

إقرأ أيضًا