مصير الظالمين سُنَّةٌ ماضية لن تتغير


عبد العزيز الجميلي
باحث وأكاديمي

يدب اليأس في بعض الأحيان في نفوس الكثير من الناس، عندما تدلهم الخطوب، وتتوالى المصائب وتختلط الصور والأوراق.
حينما ينشغل الكثير من الناس كل في شأنه، ولا يلتفتون الى بعضهم من أجل التعاون أو التناصح، أو على أقل تقدير، من أجل المواساة.
حينما ينأى أصحاب السلطان أو الجاه أو أصحاب المال، في أبراجهم العاجية، عن الناس المسحوقين والمظلومين والمحرومين.
حينما يستشري الطغيان على الناس، من قِبَلِ الدُّوَلِ أو الحكومات أو أصحاب القرار سواء كانوا أفراداً أو جماعات.
وحينما تُغْلَقُ كل الأبواب في الأرض على الناس، يتذكر هؤلاء الناس أن لهم رباً لا يتخلى عنهم، وأنه سبحانه لا ولن يخذلهم إذا صدقوا في التوجه اليه والاعتماد والتوكل عليه.
فيتضرعون ويلجئون اليه، وتنقطع آمالهم الا به سبحانه، عندها يأتيهم الغوث والمدد منه جل في علاه، ليقيم الحجة على خلقه في مثل هذه الاختبارات والابتلاءات.
يقول سيد قطب رحمه الله في تصوير حالة أهل الحق من الرسل وأتباعهم، من خلال هذه الآية: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِين)  يوسف:110 .
 يقول: إنها صورة رهيبة , ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل , وهم يواجهون الكفر و العمى والإصرار والجحود .
وتمر الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم إلا قليل ,وتكر الأعوام والباطل في قوته , وكثرة أهله ,والمؤمنون في عدتهم القليلة وقوتهم الضئيلة . إنها ساعات حرجة , والباطل ينتفش ويطغى ويبطش ويغدر .
والرسل ينتظرون الوعد فلا يتحقق لهم في هذه الأرض . فتهجس في خواطرهم الهواجس . .
تراهم كُذِّبوا ؟. ترى نفوسهم كذبتهم في رجاء النصر في هذه الحياة الدنيا ؟
وما يقف الرسول هذا الموقف إلا وقد بلغ الكرب والحرج والضيق فوق ما يطيقه بشر، أ ه.

وهنا يدعونا مولانا ان نسير في الأرض وننظر كيف كان مصير وعاقبة الظالمين، سواء كانوا دولا أو حكاما أو جماعات أو افرادا.
يقول تعالى: ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82).)) غافر.
وفي تفسير هذه الآية يقول ابن كثير رحمه الله:
يخبر تعالى عن الأمم المكذبة بالرسل في قديم الدهر ، وماذا حل بهم من العذاب الشديد ، مع  شدة قواهم ، وما أثروه في الأرض ، وجمعوه من الأموال ، فما أغنى عنهم ذلك شيئا ، ولا رد عنهم ذرة من بأس الله ; وذلك لأنهم لما جاءتهم الرسل بالبينات ، والحجج القاطعات ، والبراهين الدامغات ، لم يلتفتوا إليهم ، ولا أقبلوا عليهم ، واستغنوا بما عندهم من العلم في زعمهم عما جاءتهم به الرسل، أ ه.
وفي هذه الآية إشارة الى النقاط التي دفعت هؤلاء الى الظلم والطغيان والجبروت؛ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ ... وَأَشَدَّ قُوَّةً ... وَآثَارًا ... فِي الْأَرْضِ.
لكن وعبر التاريخ كله، عندما يحصل الظلم لم تمنع الكثرة والقوة والمال من هلاك الظالمين أبدا، وأسباب صعود الحضارات وارتقائها، و تدهورها وانحطاطها مرتبط بهذه المعادلة:
(( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9).)) سورة الروم.
يقول عبدالله بن عبدالعزيز التميمي:
من سنن الله تعالى أن الظلم والبغي لا يدوم؛ بل لا بد أن ينقشع ويزول، وهذا حكم عام يشمل الأفراد والملوك، والأمم والدول. فكم من ظالم سُلِّط عليه من هو أقوى منه بحق أو بغير حق فصار ذليلاً عند الخلق؟! وكم من ملك جبار ظالم أذهب الله ملكه بسبب ظلمه؟! وكم من أمة عتت وظلمت فأخذها الله وأبادها فكأنها لم تكن؟! وكم من دولة تجبرت وبغت واعتدت فأزالها الله وبددّ ملكها ومزّق شعبها ومحا أثرها؟!.
و في سِيَر الماضين وأنباء من قد سبق من الذين بغوا في الأرض فأكثروا فيها الفساد، لكم فيهم أوضح الدلائل وأصدق البراهين وأظهر الآيات.
قال ابن خلدون رحمه الله: "واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه؛ وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري…ثم قال: فلما كان الظلم كما رأيت مؤذنا بانقطاع النوع لما أدى إليه من تخريب العمران كانت حكمة الخطر فيه موجودة فكان تحريمه مهماً وأدلته من القرآن والسنة كثيرة" اهـ.
لقد بلغت عادٌ الغايةَ في الجبروت والطغيان وقالوا: "من أشد منا قوة"، قال الله: "أَوَلم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة"، فكانت عاقبتهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات؛ "ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم"، سلطها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام فتركتهم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية: "وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة"..
وأما ثمود فاستحبوا العمى على الهدى وعقروا الناقة "وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين،  فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين"، "كأن لم يغنوا فيها".
وهكذا الحال في الأمم التي أبادها الله، والدول التي أزالها الله، وسنة الله ماضية حتى تقوم الساعة..
فماذا كان مصير الملك المتجبر نمرود الذي بغى وطغى وتجبر وعتا وادعى لنفسه الربوبية؛ لقد أهلكه الله.
وماذا كانت عاقبة بغي فرعون حين: "علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم"، لقد أخذه الله نكال الآخرة والأولى.
وكيف كانت عاقبة بغي قارون الذي بغى على قومه حين آتاه الله من الكنوز ما تنوء بثقله العصبة أولو القوة؟! خسف الله به وبداره الأرض: "فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين".
  وإن أبشع أنواع الظلم وأقبح صوره وأشدها نكراً وأعظمها خطراً البغيُ في الأرض بغير الحق، والاستطالة على الخلق، في دينهم أو أنفسهم أو أموالهم أو أعراضهم أو عقولهم، بمختلف سبل العدوان، التي يتفق أولو الألباب على استعظامها والنفرة منها والحذر من التردي فيها والتلوث بأرجاسها.
ولعظم البغي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أن صاحبه جدير بتعجيل العقوبة له في الدنيا؛ فقال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بكرة رضي الله عنه: "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم". رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الألباني.
وعاجل هذه العقوبة أن على الباغي تدور الدوائر، فإذا هو يبوء بالخزي ويتجرّع مرارة الهزيمة وينقلب خاسئاً، لم يبلغ ما أراد، ولم يظفر بما رجا.
وكذلك كانت عاقبة كل من بغى في الأرض، وعلا فيها بغير الحق، واستضعف أهلها فعلى الباغي تدور الدوائر مهما تجبر واستكبر، وغرته قوته، وأسكرته صولته.
أخرج الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ: "وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد"..
أما عقوبة البغي والظلم الشنيعة التي تكون على مستوى الدول والأمم أيضاً.. فحسبك أنه ما فشا في دولة أو أمة إلا آذنها بالخراب والدمار.. يقول الله تعالى: "وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا"، ويقول: "وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير".
روي أن ابن عباس رضي الله عنهما كان جالساً فقال كعب الأحبار: إني لا أجد في كتاب الله المنزل أن الظلم يخرب الديار، فقال ابن عباس: أنا أوجدكه في القرآن، قال تعالى: "فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا".
وإن ما يفعله في هذه الأيام الغرب المتصهين ومن سار في ركابهم، وبعض الدول الجامحة لبناء امبراطوريتها ـ ولو على جماجم الشعوب ـ من الطغيان والبغي والظلم الذي بلغ أقصى ما يبلغ؛ تحت شعار محاربة الإرهاب أو نزع السلاح؛ إن ما يفعلونه الآن لهو بداية النهاية –بإذن الله-، وهو إيذان –إن شاء الله- بخراب ديارهم وانهيار دولهم وتمزق شعوبهم؛ ذلك لأنه القانون الحتمي لسنة الله في خلقه، طبقا لقوله تعالى:
 ( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد  ( 102 ) ) .
فحذاري من اليأس والقنوط قال تعالى: ((وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ. )) يوسف (87).
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ)) الروم  60 .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


شارك الموضوع

إقرأ أيضًا