العراق بين ضغط الأممية التوسعية وأمل العودة إلى الوطن المتصالح


بقلم عمار وجيه
سياسي وباحث

هـبوا ضحايا الاضطهاد....ضحايـا جوع الاضطـرار
بـركــان الـفكـر في اتـّـقاد....هــذا آخر انفــجــار
هـيا نحــو كـل ما مـرْ....ثــوروا حـطـموا الـقـيــود
شـيـدوا الكون جديد حر....كــونوا أنــتـم الـوجود
  بـجـموع قـوية....هبوا لاح الظفر
  غدُ [الأمـمــية]....يوحدُ البــشـر

في ١٨٧٦، في منفاه، كتب "أوجين بوتييه" الشاعر الفرنسي هذه القصيدة التي اخترنا مطلعها، وهي من عمال أمريكا إلى عمال فرنسا، ووصف فيها حياة العمال تحت نير الرأسمالية.
 ومنذ البدايات الأولى للشيوعية كتب ماركس وإنجلز على صفحات البيان الشيوعي العبارة الشهيرة: (العمال لا وطن لهم). وبالرغم من الأنموذج السيء لستالين إبان الحرب العالمية الثانية الذي صدم المعجبين بفكرة الأممية، إلا إنها بدأت تلتحم من جديد في نوفمبر ١٩٥١ حين تم الإعلان عن الدولية الاشتراكية في لندن، وكان فيها أحزاب كثر، منهم الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يقوده مام جلال وحزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك.
  وبغض النظر عن المعنى الاصطلاحي للأممية ومدى ارتباطه بالشيوعية أو الاشتراكية، فإنه غدا مصطلحاً يستخدم لوصف الحركات والأحزاب التي تتوسع خارج الدائرة القطرية، وفي عالمنا العربي تنسب الأممية أحياناً إلى حركة الإخوان المسلمون، والثورة الإيرانية، وخاصة حين تشنّ عليهم الحملات السلبية وقت الأزمات.
 الإسلام الذي حكم ١٣ قرناً جاء ليترجم عملياً مراد الآية الكريمة (إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ). وبهذا المعنى لم يكن يهتم بالمركزية في الحكم قدر اهتمامه بالهوية. وبالرغم من تشظي أجزاء من الدولة الإسلامية عشرات المرات، إلا إن الإطار العام بقي إسلامياً حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. كما إن الدعوة الإسلامية بداهةً كانت تتوسع لنشر عقيدة الإسلام وليس لتوسيع الإمبراطورية وإلا لما كانت الدولة العباسية غضت الطرف عن الدولة الأندلسية التي حكمت بشريعة الإسلام واعتمدت ذات المذاهب الأربعة. معنى ذلك أننا اليوم لسنا بحاجة إلى امبراطورية إسلامية عاصمتها القدس أو مكة أو المدينة، وإنما بحاجة إلى إقناع البشرية بالإيمان بالواحد الأحد، وليكن للأمريكان دولتهم وللصين دولتها، المهم أن يسعد الناس بالهداية. لذا فإن مفهوم الأممية اختلف اليوم ولا بد له من تنظير جديد.
 أممية الإسلام الوسطي المعتدل فكرية عقَدية تجمع بين الأبيض والأسود والعربي وغير العربي على أساس التوحيد من غير تكفير للفرق والمذاهب الإسلامية. وتختلف في ذلك عن المشروع الإيراني المصدّر للثورة والذي رفع منذ اليوم الأول ضد المسلمين أنفسهم مقتضى شعار (إن لم تكن معي فأنت ضدي). بمعنى أنه لن يكتب لأي مشروع إسلامي النجاح حتى تكون إيران هي القائد فيه، ولو كانت تريد فعلاً إنجاح المشروع الإسلامي الأكبر لاستماتت في منع تقسيم السودان، ولاصطفت مع المرحوم أربكان في مشروع الدول الإسلامية الثمانية الكبرى M8 ، ولقاتلت كي لا يحصل الانقلاب على مرسي، وهي القادرة على ليّ أذرع الإمارات بسهولة لتمنع مؤامرتها على إخوان مصر. لكنها استفادت من إضعاف قوى الاعتدال الإسلامي لتتمدد من خلال التطرف الإيراني الأممي. وإذا ذهبنا إلى أبعد من ذلك نقول إنها لا ترضى حتى بقيادة حوزة النجف.
 بعد المقدمة الطويلة التي لا تخلو من محطات مفيدة، أقول: في يوم عاشوراء لفت انتباهي خطاب أبو مهدي المهندس أحد ابرز قادة الحشد وهو يهدد أمريكا حين قال: (والله بهؤلاء الشباب سنوقف أمريكا وسنوقف كل أذنابها العراقيين الذين يختبئون في المكاتب..).
 وبغض النظر عن كونه صادراً من إرادة مصممة أو قيادة مأزومة، خطر في بالي أن أعرّج على مبدأ الأممية التي تحول أتباعها في الدول الأخرى إلى تبع أو تفشل وتتمزق كما حدث بين العراق وسوريا ومصر. فالسيد المهندس ورفيقه هادي العامري وآخرون، لا يخفون تبعيتهم وطاعتهم للولي الفقيه. وقد ترجمت بوضوح حين حدث التلاحم (الأخوي) مع قاسم سليماني. صورة لا تحتمل التأويل مطلقاً. فالعزيمة المستمدة من المرشد الأعلى لا يمكن مقارنتها بأي حال حتى بمرجعية السيستاني الذي زعم شيعة العراق أنه المرجع العراقي وأرادوه خيمة لكل العراقيين حتى من دون احترام للمرجعية السنية، لكن حجمه تضاءل كثيراً أمام مرجعية خامنائي ذات الشوكة.
 على اي حال، القوم أحرار في مَن يقلّدون، وإلى من يرجعون. فهذا دينهم وذلك مذهبهم. فكما لا يحق لنا أن ننتقد السلفي العراقي في ثقته بالمرحوم الشيخ ابن باز ومتابعته لفتاوى ابن عثيمين، لا يحق لنا أن نُشكل على شيعي سواء اختار الحائري أو البروجردي أو خامنائي.
 لكن المشكلة الكارثية، أن الأممية (التوسعية) تتقاطع بالكامل مع المشروع الوطني. وإلا فكيف نهضم -ونحن جميعاً نقرأ في علوم القيادة مفهوم (توحيد خط السلطة)- أن يكون للعراق أكثر من صانع قرار؟ كيف يكون رئيس الوزراء العبادي، والمرجع الديني الأعلى السيستاني، وحامي المذهب والمكتسبات والامة الشيعية خامنائي؟ كيف يمكن ان يكون القائد العام للقوات المسلحة الرسمية رئيس الوزراء، وقادة الحشد غيره؟ والكل تصنع القرار وتتقاطع مع بعض!
 ولو فرضنا أن العراق خالٍ من السنة (المتبرمين) ومن الكرد (المشاغبين) فهل سيخلو الجو للشيعة ويتمكنون من توحيد خط السلطة؟ قطعاً لا.
 ولو عدنا عقوداً إلى الوراء لوجدنا أن العراق الذي لم يكن يوماً ما أقوى منه في أيام حكم صدام، فإن صدام نفسه لم يتمكن من إقناع ولا إجبار الكرد على الانخراط في مشروع البعث لا باتفاقية آذار سلماً ولا بالكيمياوي قهراً وظلماً.
 العراق منذ العقود الأولى من الملكية كان مرةً حقل تجارب لأممية بثوب القومية  ترغب في جمعه مع سوريا ومصر حتى لو كان الثمن تهميش الكرد والتركمان والدروز، ومرة أخرى ضحية لأممية شيوعية تريد منه أن يحمل المطرقة والمنجل ليقول آمين للينين، وثالثة لأممية (بعثية) تطمع في دمجه مع سوريا وهي فكره دونها خرط القتاد. ففي كل مرة تطرح لافتة "الحدود العراقية السورية" أرضاً وتأتي مجلة ألف باء لتصور وتعلن الفرحة باندماج البعث، ما يلبث الصراخ ان يتعالى من جديد إلى ان منع السفر إلى سوريا التي لم يكتب لنا أن نراها إلا في ٢٠٠٧.
 ولئن كنا نجد للكرد الذين دعوا إلى الالتحام بكرد سوريا وتركيا وإيران، باعتبار أنهم لا يعترفون بحدود سايكس بيكو وأنهم عانوا ما عانوا تحت مظلة "أمة عربية واحدة" فإننا لن نعذر من يدافع عن وحدة التراب العراقي مثل البعث والأحزاب الشيعية الإسلامية ثم يفعلون ما يناقضها. والغريب أن هؤلاء يخونون من يتحدث بالأقاليم مضطراً وهم أول من بادر بالتقسيم بتهميش الكرد والتركمان تارة أو العرب السنة تارة أخرى.
 أتساءل بل وأتحدى أن يخبرني أحد المثقفين بمشروع واحد منذ ثورة قاسم وإلى يومنا هذا من شأنه أن يوحد الشعب تحت مظلة وطنية، بحيث يقنع أغلب الشعب العراقي متجاوزاً العرقية والطائفية.
أخيراً، وليس آخراً، فقد تبين بأن حركات الاعتدال الإسلامي وعلى رأسهم الإخوان الذين اتهموا بالأممية العابرة للحدود والتبعية التنظيمية لغيرهم، هم أكثر الناس ممارسةً لما يفضي إلى وحدة التراب الوطني، ولم يمنعهم تضامنهم مع المسلمين كافة ومع قضاياهم العادلة من ذلك، ولا من احترام كل المكونات داخل البلد الواحد، والقناعة بأن البلد الذي يحكمه دستور متفق عليه، هو بمثابة بيت كبير تعاقد على السكن فيه مجموعة من الناس ووجب عليهم حمايته وحماية مكتسباته.
 ولكم أن تقرأوا نظرية المفكر الدكتور  محمد مختار الشنقيطي في شأن الدولة العقارية إذ يصف كل دولة بمثابة عقار استأجر طابقه الأرضي مسيحي وطابقه الأعلى مسلم ثم تعرض ذلك الدار لمحاولة سرقة، ألا يتفق المسلم والمسيحي على الدفاع عنه ورد الصائل؟ كذلك الوطن الواحد، وحتى لو كان الصائل مسلماً.
 قوى الاعتدال الإسلامي في العراق تطمع في بقاء الكردي العراقي أخاً وشريكاً حقيقياً في الوطن. وتطالب الشيعي العراقي ان يشكر نعمة ربه وهو ينعم بصداقة طويلة الأمد مع اخيه السني والأقليات الأخرى بدلاً من ان يكون تبعاً لدولة ما، فكيف تكون الوطنية بمعناها العملي إن لم تكن كذلك؟
 وليس ادل على ما نقول من أن قيادة حركة الإخوان في مصر، لم تكن على وفاق مع الإخوان العراقيين الذين ترجح لديهم المشاركة السياسية بعد الاحتلال، بل كان المرشد  السابق محمد مهدي عاكف فك الله اسره، يدعو وبإلحاح إلى مقاومة المحتل وكفى. ولو كان إخوان العراق أمميين بمعنى البيعة والطاعة والتبعية لأطاعوا المرشد ورفضوا أي مشروع لا يتفق معه، لكنهم أعلم بشعاب بلدهم.

 العراق اليوم أحوج ما يكون إلى مشروع وطني فيه تجديد وتطوير بحيث يستوعب المدنية ويحفظ الهوية الإسلامية العظيمة السمحة. لا مكان فيه لأي ايديولوجية فيها معنى التبعية خارج الحدود، اللهم إلا فيما يتعلق بالموقف الإسلامي العام من القضايا العادلة. وسيثبت للشيعة العراقيين أن معيشتهم مع سنة العراق أكرم لهم من أن يكونوا مواطنين درجة ثانية أمام ابن طهران الارستقراطي الذي ينظر إلى العراقيين باستعلاء. 

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا